خوف مرضي وجدل سياسي حول تعليم اللغة العربية بفرنسا
باريس: يوسف لهلالي
كلما أثيرت قضية تدريس اللغة العربية بفرنسا إلا وسارع العديد من السياسيين إلى القول إن بلادهم مهددة بالتعريب والأسلمة، حيث أصبحت العربية تشكل خوفا مرضيا للعديد منهم وكأننا مازلنا في عهد الحروب الصليبية، عندما كانت العربية لغة العلم والمعرفة، أما اليوم وأمام الحروب والانقسامات التي تضرب العالم العربي، فإننا نتساءل عن منبع خوفهم، هل هو واقع العالم العربي الرديء، أم ذكرى حرب تحرير الجزائر التي ما زالت جرحا لم يلتئم بعد في ضفتي المتوسط، أم أن ما يخيفهم هو تاريخ الحروب الصليبية.
وانطلق هذا الجدل مجددا، بعد التوصيات التي قدمها حكيم القروي الذي أنجز تقريرا مفصلا حول أوضاع الإسلام بفرنسا وحول طرق تمويله، والذي صدر عن مؤسسة «مونتاني» الليبرالية في الظروف التي يحاول فيها ايمانييل ماكرون إعادة تنظيم المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وتضمن التقرير عدة توصيات لمواجهة «صناعة الإسلاميين بفرنسا» أو صناعة التطرف بصفة عامة، من خلال إيجاد مصادر لتنظيم وتمويل الإسلام بفرنسا ومحاربة الفكر المتطرف على شبكات التواصل الاجتماعي، التي تعتبر مرتعا كبيرا له. ومن أهم توصيات هذا التقرير تعليم اللغة العربية في المدارس التابعة للدولة بهدف تدريسها في فضاء مفتوح بدل بعض المساجد والجمعيات الدينية، وهو الاقتراح الذي رحب به وزير التربية الوطنية ميشال بلانكير وتجاوب معه بشكل إيجابي، مؤكدا على ضرورة تطوير تعليم العربية بفرنسا، لكن تصريحاته لقيت معارضة كبيرة، خاصة لدى اليمين المتطرف أو اليمين المحافظ بصفة عامة، بل إن هذه التصريحات حُرفت من خلال إطلاق إشاعات مفادها أن الأطفال سوف يجبرون على دراسة العربية في الأقسام الأولية، وهو الأمر المستبعد، أو بتبريرات عدة منها «اسلمة» فرنسا ونشر التطرف، والعنف الذي ووجه به هذا الاقتراح يعكس التخلف الكبير الذي تعيشه العديد من الأوساط السياسية الفرنسية.
من جانبها اعتبرت مارين لوبين أن تصريحات وزير التربية الوطنية فيها نوع من المحاباة، أما النائب المحافظ نيكولا ديبون والذي يقتسم العديد من الأفكار مع التجمع الفرنسي اينون فقد اعتبر أن هناك «عملية تعريب لفرنسا» وطالب بضرورة التركيز على تعليم الفرنسية، فيما اعتبر الوزير السابق للتربية الوطنية عن اليمين ليك فيري، أن هناك «خطر إدخال الإسلاموية إلى التربية الوطنية»، وهي كلها تصريحات سياسوية هدفها إثارة الجدل، خاصة عندما نعلم المكانة المتدهورة التي يحتلها تعليم العربية كلغة ثانية أوثالثة بالمدارس الفرنسية، والتي تتجاوزها بكثير لغات أجنبية أخرى كالروسية أو الصينية، رغم أن العربية دخلت فرنسا منذعهد فرنسوا الأول وكولبير الوزير القوي للملك لوي14، وذلك من أجل نقل العلوم والمعارف التي كانت تتضمنها العربية آنذاك.
هذا ويعتبر تعليم اللغة العربية غير جديد بفرنسا، إذ يعود إلى العهد القديم منذ الكليات العامة الملكية سنة 1530 والتي أصبحت «كوليج دوفرانس»، وهناك معهد اليوم لدراسة اللغات والثقافات الشرقية أسس سنة 1795 وكذا شهادة التبريز التي تم إحداثها سنة 1905 من أجل تطوير التبادل التجاري والدبلوماسي مع العالم العربي، كما أن العربية يتكلمها حوالي 3 ملايين شخص يوميا بفرنسا من شمال إفريقيا ولبنان وسوريا، حسب تقرير وزارة الثقافة الفرنسية لسنة 2017.
وتعكس الأرقام الرسمية لوزارة التربية الفرنسية ضعف تدريس العربية بفرنسا بصفة عامة، عكس ما يروجه بعض زعماء اليمين واليمين المتطرف، ففي السلك الأولي لا يتجاوز عدد التلاميذ 567 اختاروا العربية كلغة ثانية في السنة الدراسية 2017/2018، وفي الأقسام الثانوية يدرسها اليوم 11200 كلغة ثانية أو ثالثة، في حين يدرس الصينية أكثر من 18 ألف طالب والروسية 6199 طالبا، وهو ما يعكس تراجعها بفرنسا، وبوزارة التعليم لم يتم، سنة 2018، فتح أكثر من 8 مناصب لتدريس هذه اللغة بمختلف المستويات.
ورغم أهمية هذه اللغة ومستقبلها في العالم، حيث تعتبر اللغة الرسمية ل26 بلدا بإفريقيا وبالخليج العربي ويتكلمها 430 مليون شخص، فإن فرنسا لا تقوم بتدريسها إلا في إطار اتفاق دولي جمع باريس منذ 1970 بعدد من البلدان، منها المغرب الجزائر وتونس، في إطار تعليم لغة وثقافة البلد الأصلي، ويستفيد منها اليوم، حسب وزارة التربية الوطنية، 48129 تلميذا وفقا لإحصائيات سنة 2016، غير أن فرنسا تسعى الى فتح هذا التعليم في وجه تلاميذ فرنسيين ومن جنسيات أخرى.
ولفهم العلاقة بين الفرنسية والعربية هناك كتاب مهم يشير إلى أهمية اللغة العربية وتأثيرها على اللغة الفرنسية تاريخيا وحتى اليوم، ويسمى « أجدادنا العرب وما تدين به لغتنا إليهم» لجون بيغيغو، ويشير إلى الدور الذي لعبته الحضارة العربية التي ساهمت بشكل كبير في بناء الحضارة الإنسانية،
والدليل على ذلك هو التلاقح الذي يوجد في علاقتها مع باقي اللغات، والتأثير الذي مارسته على لغات أخرى مثل الإسبانية،الإنجليزية والألمانية كلما كان هناك احتكاك مع هذه اللغة وشعوبها من تبادل نبيل، وهو ما يعكسه هذا التواجد الكبير لمعجمها في باقي اللغات مثل الفرنسية. كما أن أغلبية الفرنسيين والعرب لا يعرفون أن اللغة العربية هي اللغة الثالثة بعد الإنجليزية والإيطالية في إغناء معجم اللغة الفرنسية بالكلمات الجديدة، يقول عالم القاموس الفرنسي جون بغيغو، حيث إن اللغة الفرنسية تحتوي على 500 كلمة من أصل عربي.
وكان ابن ميمون وابن رشد وراء ترجمة مخطوطات وكتب من الفلسفة اليونانية وصلت إلى أوروبا، ولولا هذه الترجمة العربية لما عرفت بلدان مثل إسبانيا وفرنسا وغيرها من البلدان الأوربية هذه المعرفة، وهو الأمر الذي أكدته كتب التاريخ، كما أن الحضارة العربية مازال أثرها في عدة بلدان أوروبية كإسبانيا والبرتغال وفرنسا وإيطاليا ومالطا، وبذلك يتبين أن أية حضارة تتقدم بالانفتاح والتلاقح مع باقي الحضارات وليس بالانكماش والانغلاق على الذات .
«فالادعاء بأن ﺗﻌﻠﯾم اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌرﺑﯾﺔ ﺳﺑب ﻓﻲ ﺗﻐذﯾﺔ روح اﻻﻧﺗﻣﺎء اﻟطﺎﺋﻔﻲ أو اﻟﺗﺟﮭﯾز ﻟﺗﻌرﯾب وأﺳﻠﻣﺔ اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ ليس سوى ﻓﻛرة ﺳﺧﯾﻔﺔ ﺣﻣﻘﺎء ﺧﺎﻟﯾﺔ ﻣن أدﻧﻰ مستويات العقلانية،هل نقول نفس الشيء بالنسبة ﻟﻠﻐﺔ اﻟﺻﯾﻧﯾﺔ أواﻟروﺳﯾﺔ ؟» يقول جاك لونغ، رئيس معهد العالم العربي متوجها إلى الذين يعلنون عداءهم للغة العربية.
لقد كان الجدل الذي عرفته فرنسا حول توصية تعليم اللغة العربية مغلوطا وذا طابع سياسوي، بل إن الذين استغلوا هذه التوصية أطلقوا إشاعات لا أساس لها من الصحة، لأن هذه اللغة تدرس بفرنسا منذ قرون، كما هو الشأن بالنسبة لباقي اللغات الأجنبية.
الكاتب : باريس: يوسف لهلالي - بتاريخ : 09/11/2018