المهدي بن بركة: بين الذاكرة والتاريخ 2

ذ. عبدالحي أزرقان

يذهب الكاتب إلى التعبير بكل وضوح عن كون بن بركة لم يعد يمثل العدو الرئيسي لفرنسا بعد الإفراج عنه مع مجموعة من رفاقه المناضلين من أجل استقلال المغرب، لقد اقتنع السياسيون الفرنسيون بضرورة أخذ مبادرة الحوار مع القوى السياسية المغربية قصد إطفاء موجة السخط المتنامية لدى الشعب والحد من التصدي المتصاعد لهذا الأخير للمسؤولين عما يسمى بنظام الحماية في المغرب. وسط هذا المناخ السياسي الجديد الذي لم يعد فيه بن بركة العدو الرئيسي للفرنسيين، يحصل تعميق وتأصيل في الموقف السياسي لابن بركة يجعله يتميز وسط السياسيين المغاربة ويأخذ منحى يتعارض شيئا فشيئا مع باقي التصورات المتصلة بالاستقلال. يسعى المؤلف إلى أن يوحي للقارئ بأن مرحلة ما بعد 1952 هي مرحلة نشأة خلاف جديد بين المهدي (سيكون في ما بعد عبارة عن صراع ثم صراع حاد ومن دون رجعة) والقوى السياسية المغربية ليصبح الصراع مع مرور الوقت صراعا داخليا أكثر مما هو صراع خارجي، سيصبح الخلاف ابتداء من التاريخ المذكور قائما حول طبيعة الاستقلال وليس فقط حول الاستقلال، وسيحدث هذا النوع من الخلاف تغييرا في أطراف الصراع وطبيعة الصراع. سيبدأ التفكير في طبيعة السلطة وطبيعة الحكم اللذين ينبغي أن يقوما في المغرب.
يقول موريس بوتان « أدرك المهدي بعد الإفراج عنه أن الحركة الوطنية لم تعد حركة الطبقة البورجوازية، بل أصبحت ملكا لكل أفراد الشعب المغربي. صحيح أنه كان يتزعم الاتجاه الأكثر مناهضة لكل توافق مع السلطات الفرنسية، ولكنه لم يكن أبدا «عدوا لفرنسا» كما يحلو للكثيرين أن يرددوا. كان ببساطة يعتقد أن المغرب يجب أن ينال حريته كاملة، وألا يقنع باستقلال صوري، مما سيمكن الشعب المغربي من الاستفادة من ثروات وطنه، ليعمل على الدفع به في درب التحديث، مما سينعكس إيجابا على مستوى سكانه. باختصار، ظل المهدي دائما يناصب العداء لكل ما يمت بصلة إلى الاستعمار الجديد. ويبدو أن إدغار فور Edgar Faure، الذي تسلم رئاسة الحكومة الفرنسية في دجنبر 1954، قد استبق الأحداث وعين في ربيع 1955 مقيما عاما جديدا جيلبر غراندفال Gilbert Grandval ، وكلفه بمهمة التعجيل بإطلاق المفاوضات مع أعضاء الحركة الوطنية، غير مبال بمشاعر الاستياء والمرارة التي أثارها قراره في نفس مواطنينا المقيمين بالمغرب « .
يوضح الكاتب أن هذا التعيين الجديد سيخلق جوا سياسيا جديدا يجعل قوة الاحتلال تتصدى من جهة للمغاربة المنفذين للعمليات التي «يتبناها الهلال الأحمر الخاضع لسيطرة الشيوعيين، أو الجناح المسلح لحزب الاستقلال، الذي يطلق على نفسه اسم المنظمة السرية؛» (ص 39)، وتواجه من جهة ثانية ردود أفعال الفرنسيين المقيمين بالمغرب المتشبعين بالعقلية الاستعمارية الذين لا يترددون في الانتقام من المغاربة، دون أن يهمل الكاتب ذكر ما يسميه»بحركات « الفرنسيين الأحرار « [الذين وجهوا] نداء إلى رئيس الجمهورية روني كوتي لمطالبته باتخاذ إجراءات مستعجلة لإيقاف الأزمة، وحذروا من احتمال وقوع اضطرابات خطيرة في الأيام التالية» (ص40).
غير أن سعي الكاتب من خلال إثارته لهذه النقطة، رغم كل ما تحمله من موضوعية في ما يتصل بذكر الأحداث وتسجيلها، هو إبعاد الصراع المباشر، وبالخصوص العداء الواضح بين المستعمر الفرنسي وبن بركة، مع العمل في الوقت ذاته على التوطئة لتحويل الصراع بين هذا الأخير والسياسيين المغاربة خاصة بينه وبين المؤسسة الملكية. سيؤدي الجو الجديد السائد في إطار هذه المعطيات الثلاثة إلى تعجيل تنظيم مؤتمر إيكس ليبان الذي سيخرج فرنسا من الصراع والمواجهة مع السياسيين المغاربة، ومن ثمة انتهاء العداء الدفين ضدهم، أي الانتهاء من التفكير في طرق الانتقام منهم، خاصة مسألة الاغتيال.
هكذا نجد الكاتب يثير انتفاء الصراع بين فرنسا وبن بركة مباشرة عند تعرضه لما أسماه الأسابيع الأخيرة من عمر الحماية، وبالضبط في الفقرة الثالثة من تناوله لهذه النقطة، حيث يقول:  « وغداة «اتفاق إيكس ليبان» أشاد المهدي بن بركة مثل باقي الأعضاء بهذه النتيجة التي أدت إلى إركاع فرنسا الاستعمارية وجورج بيدو وعصابته الذين قرروا نفي الملك. ولكنه في ما بعد، سيغير نبرته المتفائلة في التقرير الذي قدمه إلى المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ربيع 1962. فقد تبين له أن هذه الاتفاقية إن كانت دون شك في صالح المغرب، فإنها تعود بالنفع أساسا على الملكية… «.
يستعرض موريس بوتان «اتفاق إيكس ليبان» وعودة السلطان محمد الخامس من المنفى إلى العرش، وانتهاء عهد الحماية، وبداية التفكير في ترسيخ الاستقلال وتجسيمه، لهدف واحد ألا وهو إبعاد بلده فرنسا من الصراع داخل المغرب، وبالخصوص مع بن بركة وحزبه، ليدعم بإلحاح انتقال الصراع إلى وسط السياسيين المغاربة الذين سيتولون شؤون التسيير في البلاد ويتقلدون الحكم ويمارسون السلطة. هذا مع حضور هاجس أساسي لدى المؤلف وهو إبراز ضيق دائرة هذا الصراع، في نهاية المطاف، بين بن بركة والملك الحسن الثاني. لا يخفي الكاتب التأكيد على رغبة مختلف المنتمين إلى الحركة الوطنية والممثلين أساسا في حزب الاستقلال في الظفر بالسلطة والحكم، بل بقناعتهم بذلك، لأنهم هم من دافعوا عن استقلال البلاد وعلى عودة الملك محمد الخامس من المنفى، حيث قرنوا دائما الدخول في المفاوضات مع الفرنسيين بدخول محمد الخامس إلى المغرب وباعتباره ملك البلاد. لن يأخذ الاستقلال معناه في نظرهم، وحسب المؤلف، إلا في إطار الملكية والتي لا يمكن أن يجسمها إلا الملك محمد الخامس. لن تحصل السيادة بالمعنى السياسي الحديث للكلمة إلا في إطار الملكية والممثلة في السلطان محمد الخامس؛ ولن يمسك بالسلطة ويزاول الحكم إلا السياسيون المغاربة المنظمون في إطار الحزب الذي قاد الحركة الوطنية واستجاب المستعمر في نهاية المطاف لمطلبه: استقلال المغرب.
يتعرض موريس بوتان لهذه الواقعة كما هو الشأن لدى كثير من المؤرخين والسياسيين الذين تناولوا المرحلة الأولى من استقلال المغرب. غير أن الطرح الذي نحن بصدد تقديمه يتميز باعتباره يتعرض لها للانتهاء إلى كون بن بركة يمثل رمز الاتجاه الذي يبقي على طرح مسألة السلطة والحكم في المغرب بعد الاستقلال في الوقت الذي تراجع عنها أغلبية ممثلي حزب الاستقلال، حيث سينتهي هؤلاء بالاعتراف للمؤسسة الملكية بأحقيتها في تمثيل السيادة والسلطة ويكتفون بالبحث عن المشاركة في الحكم. سيبتعد إذن بن بركة، بإصراره على طرح مسألة السلطة وضرورة تقاسمها، عن رفاق درب النضال من أجل الحصول على الاستقلال، ويجعله يتواجه مع المؤسسة الملكية، وبالخصوص مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي يعتبره صاحب الكتاب المتشبث الفعلي والوحيد بتجميع السلطة في هيئة واحدة، بل في يد رجل واحد، الملك.
يوجه الكاتب هذه المسألة ليجعلها قائمة في نهاية المطاف بين شخصين، الملك الحسن الثاني والمناضل المهدي بن بركة، وليس بين مؤسستين، الملكية والحزب. هكذا نجده يكتب في إحدى الفقرات وسط الفصل المخصص لعودة محمد الخامس إلى العرش: «  لم يعد الاستقلال الرسمي سوى مسألة مناقشات بين قيادتي البلدين. ما هي المؤسسات الجديدة التي ستظهر إلى النور؟ كانت النخب السياسية المغربية وأيضا حركة «الفرنسيين الأحرار» مقتنعة، قبيل عودة الملك، أن المغرب سيشهد إقرار ملكية دستورية يسود فيها العاهل، بوصفه حاكما دينيا ورئيس دولة، ولا يحكم، على غرار ملكة إنجلترا (يضيف الكاتب في الهامش: أليس هذا هو ما تقرر في «التصريح المشترك» الفرنسي المغربي بسيل سان كلو). ألم يبين محمد الخامس يومين بعد عودته، بمناسبة عيد العرش، في 18 نوفمبر، المهمة الأساس المنوطة بالحكومة المقبلة، قائلا:» تأسيس حكومة عصرية مسؤولة، تعبر تعبيرا حقيقيا عن إرادة الشعب، وتجعل من بين المهام التي تباشرها، مهمة وضع أنظمة ديمقراطية، على أساس الانتخاب، وفصل السلط، في إطار ملكية دستورية قوامها الاعتراف لجميع المغاربة على اختلاف عقائدهم، بحقوق المواطن، وبالحريات العامة والنقابية»؟ لم يكن محمد الخامس بعيدا إذن عن القبول بالحل الذي ينادي به المهدي بن بركة ورفاقه، بيد أن مولاي الحسن كان له رأي آخر، فالملك بالنسبة إليه يحكم البلاد على هواه، وهنا أصل المواجهة التي ستحتدم في ما بعد بين الرجلين!  «.(ص44)
هذه هي الفكرة المحورية التي يبني عليها الكاتب تحليله لقضية بن بركة؛ وهذه هي الفكرة التي تجعله يخفف من حدة الصراع الذي حصل بين المهدي ومختلف السياسيين الآخرين، المغاربة منهم والفرنسيون. كان الصراع بين الرجلين حول طبيعة النظام الذي ينبغي أن يقوم في المغرب، وبالضبط الصراع حول تطبيق ما صرح به الملك محمد الخامس حين أشار في أول خطاب له بعد عودته من المنفى إلى إقامة ملكية دستورية تعتمد فصل السلط. لقد ظل بن بركة، حسب موريس بوتان، مصرا على تمرير هذا المبدأ إلى الواقع رغم أن كثيرا من رفاقه من حزب الاستقلال في البداية، ومن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ما بعد، تخلوا عن هذا المبدأ وراحوا يكتفون بالمطالبة باعتماد الديمقراطية، وبالخصوص بنيل نصيب من الحكم وليس من السلطة. تشبث بن بركة بتوجهه هذا في الوقت الذي أصر فيه الحسن الثاني على أن الملك لا يكون ملكا إلا إن كان يسود ويحكم، وذلك وفقا للمنظور الإسلامي ذاته للحكم. كان الصراع إذن بين شخص يعمل من داخل السلطة على اختزال الحكم في دائرة المؤسسة الملكية، وبالضبط في يد الملك ذاته، وشخص يسعى من وسط المعارضة إلى الحد من سلطة الملكية، وجعل الحكم بين ممثلي الشعب.
يذهب المؤلف بعيدا في هذا الاتجاه حيث يورد أقوالا للشخصين معا لتأكيد فكرته هذه، كما يؤول كثيرا من الأحداث البارزة التي حصلت بعد الاستقلال، والمتمثلة في بعض الانتفاضات والمؤامرات والمحاكمات وتأسيس أحزاب سياسية، بهدف التدليل على أطروحته المحورية: الصراع الحاد وغير القابل للتوافق بين الحسن الثاني وبن بركة. يتعرض الكاتب لأحداث عدي أوبيه ولاغتيال مسعدي واختطاف طائرة قادة الثورة الجزائرية وانتفاضة الريف وتأسيس حزب الحركة الشعبية….إلخ ليدعم فكرته الرامية إلى جعل الملك الحسن الثاني رجل سلطة يوظفها لترسيخ الملكية ومنحها ما يوفر لها الاستقرار والاستمرارية عبر أساس يقوم على الانفراد بالحكم والسلطة. هذا في الوقت الذي يقدم فيه المهدي بن بركة باعتباره رجلا ذا طموح سياسي مُصِرٍّ على الذهاب بالاستقلال إلى حدود إنشاء ملكية حديثة لعهد جديد تلتقي مع الملكيات السائدة في العالم المتقدم، ملكية تسود وتترك الحكم للسياسيين المهتمين بشؤون الشعب والبلاد. يثير الكاتب من حين لآخر شخصيات سياسية، منها من يدافع بكل قوة عن التوجه الذي راح الحسن الثاني يرسخه، ومنها من اصطف وراء طموح المهدي بن بركة بحثا عن تجسيم حلمه. غير أن المعنيين الرئيسيين في الصراع يظلان، حسب الكتاب، الحسن الثاني من جهة وبن بركة من جهة أخرى.
يثير الكاتب أحيانا شهادات شفوية حصل عليها من داخل الوسط السياسي المغربي ليستدل بها على طرحه الذي لخصته أعلاه والكامن في التأكيد باستمرار على نظرة الرجلين المتصارعين إلى السلطة والحكم، وبالخصوص ما يسميه تعطش الملك الحسن الثاني للسلطة، وميل بن بركة إلى خدمة الجماهير الشعبية. أذكر هنا مثلا لقاءه بابن عبد الرحيم بوعبيد الذي مده بالمعطى التالي: «أفضى لي إبراهيم، ابن عبد الرحيم بوعبيد، بهذا السر: « قبل فترة قصيرة من سقوط الحكومة، حل مولاي الحسن بمنزلنا للقاء أبي، وأخبره بقرب حل الحكومة. ودار بينهما الحديث التالي : « كلفني جلالة الملك بتشكيل فريق حكومي جديد. أجابه أبي: لا علم لي بذلك، ولا أتحدث عن هذه الأمور إلا مع الملك. ستكون وزيرا للشؤون الخارجية. رفض أبي مواصلة الحديث في هذا الأمر، حينها وضع مولاي الحسن يده على كف أبي، وقال له كلاما من الغرابة بمكان: عبدالرحيم أنت لا تفهم مرادي…أريد أن يكون لي دور، والملك ما زال شابا (كان عمره حينها خمسين سنة). لا أريد أن يشيب شعري قبل أن أخلفه على العرش. أنت أخي. أنت صديقي. ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ لنستقل القطار معا « . لم يقبل أبي طبعا الانسياق وراء هذه التخمينات» (ص91).

الكاتب : ذ. عبدالحي أزرقان - بتاريخ : 12/11/2018