كدأبها، حركت الراحلة فاطمة المرنيسي، هذا الأسبوع، المياه الضحلة في العقل العربي الذكوري النزعة، وأثارت سلطة الرقيب وقبلها سلطة التقليد التي رفضت دوما جرأتها في خلخلة المألوف والجاهز، خاصة في مجال التراث الإسلامي؛ فقد أزعج نبشها وحفرها في التاريخ السياسي للنساء، حتى بعد رحيلها، سلطات الرقابة بوزارة الإعلام الكويتية التي منعت دخول العدد الجديد (96) من مجلة «نزوى» العمانية الى المكتبات الكويتية، والسبب كما جاء في رسالة توضيحية بعثتها الوزارة إلى إدارة المجلة، دراسة للمفكرة المغربية وأيقونة السوسيولوجيا المغربية والعربية الراحلة فاطمة المرنيسي، وهي الدراسة التي تناولت وضعية المحظيات في تاريخ الدولة الإسلامية في علاقتهن بالسلطة السياسية، بترجمة من الأستاذ عزيز الحاكم.
منع المجلة يطرح مستويين من النقاش اليوم: الأول مرتبط بثقافة الرقيب والوصاية التي مازالت تهدد حرية النشر والإبداع بالعالم العربي، وترهن بالتالي أهم مداخل الحداثة بهذا العالم للإرادات المؤسساتية الوصية، ونعني به المدخل الثقافي، والمستوى الثاني المتعلق بالمقدس والديني عبر بوابة التراث، والممنوع الخوض في بنياته أو تفكيكها لفهم وتفسير عوامل هذا التّأخر الذي يعاني منه العرب والمسلمون.
الدراسة المضمنة في كتابها «سلطانات منسيات»، تطرقت من خلالها المرنيسي إلى الحواجز التي كانت مفروضة على الممارسة السياسية للمرأة في الإسلام خاصة في العصر العباسي، سواء كانت محظية أو وصية على العرش، حيث أن ممارستها للسلطة لم تكن تتم إلا من وراء ستار الرجل وعبره. كما تتناول ظاهرة ارتقاء الجواري في الترتيب الاجتماعي، ودورهن في زعزعة السلطة من خلال التنصيب والعزل، كما حدث مع الخيزران زوجة الخليفة المهدي وأم هارون الرشيد والهادي، وحبابة زوجة الخليفة اليزيد والسيدة الحرة بتطوان وشجرة الدر بمصر و….
لقد اشتغلت المرنيسي، بعد أن انتبهت الى أن جميع علل المجتمعات الاسلامية ناجمة عن سوء استغلال هذا التراث الذي تعرض للتشويه، وانْتُقِصَت كثير من حقائق تاريخه لخدمة مصالح فئات بعينها اتحدت لحجب الدور الريادي للنساء في لعبة السياسة والحكم، على مفهوم الحريم السياسي حتى غدا مفهوما تفسيريا ومنطلقا لمعظم تحليلاتها. كما أنها وعت مبكرا أن أي تناول للمشاكل الاجتماعية لا يمكن أن يتم دون تفكيك الخلفيات الثقافية التي تقف وراء معاناة النساء ومن أولى هذه الخلفيات الواقع والتراث، وما يختزنه المتخيل الذكوري عن المرأة.
وطيلة مشروعها البحثي، وفي سياق البحث عن بدائل، قدمت فاطمة المرنيسي قراءة جديدة للتراث بأسلوب جريء اعتمد على كسر الطابوهات ونقد الفكر التقليدي الذكوري، لكن بذكاء جعلها تلعب ضمن مساحة ووسط رقعة الإطارات الشرعية لتفكيك السلطوية الذكورية في الوعي الاسلامي، من قلب الثقافة الإسلامية وليس من خارجها.
إن السؤال الذي طرحته المرنيسي منذ بداية الثمانينات حول وضع المرأة في التراث الاسلامي، مازال يكتسي ملحاحيته اليوم، خصوصا في جانب إغفال الحديث عنه وهو: لماذا عمل المؤرخون والباحثون في تاريخ هذا التراث على طمس هذه الحقائق المتعلقة بدور المرأة القيادي في فترات عصيبة من تاريخ الدولة الاسلامية، ولماذا تعمدوا إسقاطهن من الذاكرة الجمعية والتاريخ الإسلامي، ولماذا يتم تغييب هذه الأدوار عن مناهج التدريس لمحو الصور النمطية عن المرأة؟
إن النزعة الذكورية المتجذرة في العقليات قبل المؤسسات، نزعت من التاريخ الرسمي الأدوار التي قامت بها النساء، لذا آلت الراحلة على نفسها تحمل مهمة السؤال والتساؤل عن المحجوب والمغيب في دهاليز الفكر الذكوري الذي يصر على طمس فاعلية نساء أضأن تاريخ الاسلام.
لقد قدم المؤرخون صورة سلبية عن الوصيات على العرش من حيث توصيف حكمهن في التاريخ الإسلامي، حيث نجد أن هذه الكتابات التي لا يمكن فصلها عن نظام بطرياركي متغلغل داخل بنيات المجتمع الاسلامي، يحرسه المؤرخون والفقهاء، صورت الوصيات على العرش على أنهن المسؤولات بشكل مباشر عن عمليات اغتيال منافسيهن ونسج الدسائس، ما يدفع الى التساؤل عن أكان ذلك حقا تكتيكا من مخططات ومعارك السلطة، أم أنه نسق سردي سلكه المؤرخون لاحتواء وتغييب ممارسة لم تكن تلقى استحسانا من طرفهم، بل رأوا فيها اعتداء واختراقا لمجال ذكوري صرف هو مجال الحكم والسلطة. كما أن المؤرخين استنكفوا عن الحديث عن دور هؤلاء النساء، سواء كن محظيات أو حرائر، في استمرار السلطة وازدهار الخلافة في أوقات عصيبة من تاريخ الدولة الاسلامية.
شكرا لأيقونة السوسيولوجيا التي لا تزال تحرضنا على السؤال حتى بعد رحيلها، وتنبهنا الى أن الحداثة ليست بنيات مادية فقط، بل بنيات فكرية فوقية تؤسس لها وتحميها وتطورها، لا تقطع مع التراث بقدر ما تقطع مع التقليد.
فاطمة المرنيسي.. مزعجة السلطة

الكاتب : حفيظة الفارسي
بتاريخ : 28/12/2018