محمد شكري سيرة أصدقاء … وجسدٌ للكتابة

لم تكن طنجة تلك المدينة ، التي أسرت محمد شكري بشموس لا تعرف الأفول أو بشوارعَ لا تكاد تنام أو بفضاءات تحبس الأنفاس فحسب ، بل استطاعت أن تجعل منه الأسطورة التي خلدته في الأدب العالمي . يموت شكري ويحيى شكري في قلب الأدب وبين جوى وجوانح الأصدقاء ، وما خلفوه من رسائلَ بدم الورد والرماد و الجنون .
إن جنون طنجة من جنون محمد شكري ؛ المدينة التي كانت مهبط الأرزاء مهبط وحي الكتابة . ثلاثيته العالمية في السيرة الذاتية و ما شابهها ؛ « الخبز الحافي « و « زمن الأخطاء « و» وجوه « ، فلم يسدل الستار بعدُ عن رُكح طنجة ، وعن رياحها العاتية معبد للأخطاء والخطائين والتائبين والتوابين . لم يجعل شكري المدينة بطلة في أعماله ، إلا بعدما عاش في بطنها وفي سُجوف ليلها ، لما يزيد عن عشرين سنة متوالية . فالسيرة الذاتية للمدينة هي سيرة محمد شكري في مدها وجزرها ، في رياحها التي تعوي بين دروب وأزقة ومقاه كان يعشقها . يقول « أنا كاتب طنجاوي» ؛ « أنا كاتب عالمي « ؛ أو عندما يزنَّر بحبال حواراته المرحة مع أصدقاء فيقول : « إن لكل طنجته « .
من سور المعكازين ـ أي الكسالى ـ إلى شارع باستور أو من فندق الموحدين إلى مقهى السنطرال ، ألف حكاية و حكاية مع أدب تفتق برعمه ، واشتد عوده في غفلة عن الأدب والأدباء . باستثناء الكاتب الأنيق محمد الصباغ الذي حمَّله المشعل في مقهى الكونتيننتال بتطوان ، لولاه لما كان شكري ما هو عليه اليوم ، ولولاه لأصبح أدب المهمشين والمنبوذين والتعساء والبؤساء والمارقين في خطر أو على حوافي لعبة النسيان .
بعيدا عن البلور الذي يلمع سناه كالكريستال ، قريبا من شفافية محمد شكري، تبرز الفردانية في ثوبها الجديد ، في أناقة بحجم القبح والازدراء . ها هو محمد شكري ينام قرير العين على رصيف من أرصفة الطرانكات بمدينة تطوان ، حيث يعمل الصبيُّ نهارا في السُّخرة لزبناء إسبان ، بينما الليل خصصه للنوم قرب جدار ، يُغدق عليه ببعض الدفء والتحنان . سور له باب باطنه فرن ، وظاهره من قَـِبَله جسد صبي مكوم كحفنة أديم . سيرة صبي زنيم ، ليست كالسيرة التي أخرجها فليب لوجون أو سيلين أو جاك بوريل أو حتى صاحب الوجوه البغدادية غالب هلسا . هي معاناة تأكل وتتغذى وتنمو من الذات نفسها كالفطر؛ لتعود إليها من جديد . ذات متصرّمة في ماض بئيس ، مندغمة و محبورة بعقلية الكبار وتوجساتهم ، تتنفس هواءهم وتتشرَّب غدير مياههم .
ألف وتسع مئة واثنان و سبعون السنة التي انفتحت على ما غلق واستغلق ، جاءت السيرة الذاتية لمحمد شكري « الخبز الحافي « على إيقاع المنع والمطاردة ؛ فظلت حبيسة رفوف مهملة نسجت عليها عناكبُ شِعاعها. في الوقت الذي قرأها العالم بكل لغاته ، وتغنى بهذه التجربة الفريدة ، حملها محمد برادة مخطوطة إلى دار الآداب بيروت لتأخذ طريقها الطبيعي في النشر ، وتطل على العالم العربي من عاصمة الثقافة و الفن ، إلا أن الجرأة التي حبَّر بها الكاتب هذه السيرة ، كانت السبب المباشر في عدم قبول هذا الطلب .
وفي تلك الآصرة ، ظل محمد شكري ، في عيون محمد برادة ، سنجابا لا يشبه سنجابا آخر. بل وضعه في الخانة ، التي يحتلها الكاتب خوان غويتيسولو ، نزيل مراكش الحمراء ، من الأدب الإسباني . على اعتبار أنهما غير قابلين ـ أي شكري و غويتيسولو ـ للتصنيف والتبويب والتفييء . فكلاهما ينظران إلى الواقع بعيون مائية وحاسرة . من الجنرال فرانسيسكو فرانكو ، الذي دك برشلونة دكا ، إلى مجاعة الريف ؛ دوائر الموت و الرغبة الجامحة والحرونة تحدق بالنظيرين . فما كانت غواية الكتابة وجرفها الهاري إلا سبيلا نحو تكسير طوق الخوف والأوهام نحو معانقة هذه الحرية ، التي يشيّدها الإبداع على حواف وظلال من البنفسج .
إن صداقة محمد شكري كالطربيد العابر، الذي يمخرُ اليعابيب ، علاوة على أن لها جوارٍ منشآت في البحر كالطود العظيم ، تجمع العظماء و سيرهم في تاريخ الأدب العالمي ؛ من الكاتب الأمريكي بول بوولز إلى الإيطالي ألبيرتو مورافيا، ومن الفرنسي جان جنيه دفين مدينة العرائش إلى أدونيس ، ومن خوان غويتيسولو إلى الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي ، ومن تينسي وليامز إلى الكاتب الشفهي محمد المرابط . علاقات وغيرها لا يؤطرها زمان ولا مكان ، تسبح في عالم الشهرة مع نجوم رصّعوا مشهد الأدب العالمي ، وأثثوه بمواقفَ تنتصر للروح الانسانيَّة ، وتسْحَل العبودية حتى الموت . لم تكن لهذه العلاقات حدود عند محمد شكري ، إنها غير منضبطة لأصول و مبادئَ ، تعيش فوضى الحواس ؛ فوضى تقتص من الذات المبدعة ، بل تؤرقها إلى أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود. و ذلك عبر السفر المعرفي في نصوص أرخت للأدب ومناهجه ، تغوص في وجع النقد اللاذع تجاه الذات و تجاه الآخر .
محمد شكري قارئ مميز لنصوص المسخ الكافكاوية و لجيمس جويس و لبروست أيضا ، وحسب عبد الرفيع الجواهري ، يُعتبر منطادا يحلق حول التنظيرات الحديثة للعلوم الانسانية ؛ لكل من نتالي ساروت ورولان بارت ولوسيان كولدمان ، بيد أن ما يجمعه مع بول بوولز شيئ آخرَ ؛ تجربة حياة وعيش وكتابة . يقول محمد شكري في كتابه « بول بوولز وعزلة طنجة « : عاش بول بوولز طفولته وسط الكبار ، وليس في حضن الكبار ، لأنه لم يتمتع بأي دفء في أسرته ؛ إذ حياته قننت وروقبت ، وعوقبت إلى حد الإرهاب والجنون ، ولم يتسامح معه أبوه إلا في ظروف نادرة « . فمكمَن التلاقي و التلاحم والتواشج بينهما غير مرتبط بسيرورة خببية الأفول ، وإنما هي نقط مشتركة يصعب تجاوزها أو فك شفراتها ، لا في الزمن الراهن ولا في المستقبل ولا حتى بعد الرحيل . بول بوولز عاش في طنجة آتيا إليها من مدينة « نيس « الفرنسية ، معرِّجا خلال سفره على مدينة وهران وعلى جبال الريف السَّامقة ، شديدة الانحدار . وحسب إبراهيم الخطيب ، في كتابه « بول بوولز التخييل والمثاقفة « ، كان لزاما على بوولز أن يمرَّ على مدينة تطوان ، قبل أن يشدَّ الرحال إلى طنجة . من هذا المنظور ، أصبح المسار ، الذي سلكه الكاتب الأمريكي في رحلته إلى المغرب سنة ألف وتسعمئة وواحد و ثلاثين ، يتقاسم جزء كبير منه مع شكري . فضلا عن حياة تشوه « الأنا « و انعزاليتها في مرآة العالم منذ الطفولة عند كل من الكاتبين العالميين .
لقد جاءت هذه العلاقات ، التي ربطها شكري مع الكتاب العالميين ، كي تضيء غواية الكتابة والنقد لديه من منطلق تعريته للذات ؛ بأحلامها وموروثاتها الثقافية وانحداراتها ، وتشوهاتها في مواجهة واقع حرون . ولئن كانت الترجمة ، التي استفاد من عائداتها محمد شكري ، ودرت عليه بعض الأرباح ، فإنه يظل مشدودا بأغلال و حبال إلى حياة المهمشين والمشوهين في المجتمع . بالموازاة ، فهو يقتفي أثرهم و يلاحق عريشهم في أفضية متعددة يتردد عليها ، إيمانا منه أنه لا صوت لهم سوى صوت الأدب . فمجنون الورد ، عنوان مجموعته القصصية ، جاء ـ أي العنوان ـ بفعل جنوني حقيقي صدر عن محمد شكري في إحدى حانات مدينة طنجة . ولكي يخلص بائعة الورد ، وهي فتاة جميلة ، من الورد نفسه ، أقدم شكري على أكله بنهم جنوني .
كان لهذه العلاقات ، التي نسجها محمد شكري ، صدى في الأدب المغربي، من زاوية حضوره المتميز والفعلي عبر أدب الرسائل ، التي كان يتقاسمها والأصدقاءَ . ومنه فهو يُعتبر فصيلا أدبيا ، يغني المشهد الثقافي المغربي .
إن الكتابة ، بهذا الحجم ، تنصت لهفيف روح وسط بَوح هذه الرسائل ، بيْد أنها تصبح وثيقة تاريخية لمرحلة من مراحل هذه الصداقة. فتأتي اليوميات موشحة بمغامرات مزاجية ، ولعل في ذلك ما يكشف عن رتابة حياة يومية عاشها المتراسلون . ف» ورد ورماد « رسائلُ وضبها المحمدان ؛ شكري وبرادة . ولقد امتد هذا التراسل بينهما زهاء عَقدين من الزمن ، يقول محمد برادة في تقديمه لهذا الكتاب : « وأظن أن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية ، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع … « . فالذي كان يشعر به محمد شكري في « ورد ورماد « ، وهو يخط رسائله ، و بالضبط من مستشفى الأمراض العقلية ؛ مايوركا بحي درسة بتطوان ، هو الاحساس بالخواء القاتل المميت ، رغم خروجه بين الفينة والأخرى دون رقابة إلى مقهى نيبون ، التي سبق أن اشتغل بها ، وهو لايزال في ربيعه الثاني عشر. غير أن الرسائل التي كان يبعث بها إلى محمد عز الدين التازي ، وقد أشار إليها هذا الأخير في كتابه « محمد شكري غواية العيش و الكتابة « ، والذي جَنـَّسه ب: مذكرات ، كانت عبارة عن حكي مستفيض عن مغامراته العاطفية ، و خصوماته مع نفسه ومع الآخرين .
يبدو ، في ضوء ما قدمناه ، أن لمحمد شكري رغبة جنونية في الموت والحياة معا . ألف بين هذين المتناقضين من خلال مغامراته في الكتابة وفي الجسد المفهومي حسب عبد الكبير الخطيبي . فهذا الجسد بؤرة للتيه والغواية ، تتبرأ منه الحياة ، كما تبرأ منه الموت ؛ ليظل هذا الأخير جريمة ترتكب في حق هذا الجسد .


الكاتب : ذ. رشيد سكري

  

بتاريخ : 01/02/2019