محمد مخلوفي يكتب عن «طنجة بدر البدور»

لاتزال مدينة طنجة تمارس غوايتها المشتهاة على مريديها، ولاتزال فضاءاتها تحمل عناصر الإلهام المتجدد، ولاتزال وجوه أناسها البسطاء مصدر التماهي والوجد، ولاتزال معالم تمثلاتنا حولها أرضية لاشتغال آلة التخييل والابتكار والإبداع. ونتيجة لذلك، أضحت الكتابة عن طنجة انشغالا مركزيا لقطاعات عريضة من كتاب المغرب الراهن ومبدعيه ومفكريه، من داخل المدينة ومن خارجها، سواء بالنسبة لمن طاب له الاستقرار بين ربوعها أم بالنسبة لمن قدر له المرور اللحظي بفضاءاتها. هي كتابات وتمثلات إنسانية احتفائية، ظلت تنهل من معين طنجة، لتنتج كل هذا الخصب الذي نسميه نهر طنجة الدافق، عنوان هوية طنجة الثقافية وأفق حلمها النوسطالجي الذي يتجاوز حدود الزمن وامتداد المكان، ليفرز مسارات موازية تنهل من شواهد الفضاء العام ومن تراثه الرمزي اللامادي، الخصب والمتنوع، وكذا من مكنونات الذاكرة الفردية/الجماعية التي تنتظم في إطارها أنساق الإبداع الثقافيالراهن، المنتشي بعناصر الافتتان داخل سحر طنجة، حسب ما عكسته أعمال الرواد، من أمثال محمد شكري والطاهر بن جلون والزبير بن بوشتى…
في سياق تجدد مياه هذا النهر الدافق، يندرج صدور المجموعة القصصية للمبدع محمد مخلوفي، تحت عنوان «طنجة بدر البدور»، عند مطلع سنة 2017، في ما مجموعه 75 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل يستجيب لمحددات الأفق العام لنسق التوظيفات الإبداعية لمعالم فضاء مدينة طنجة داخل بنية السرد المغربي المعاصر، حيث الانتشاء بالحلم، وحيث نزوع ذات المبدع نحو أنسنة الفضاء العام ونحو الاحتفاء بحميمياته المخصوصة المتفاعلة مع مختلف أوجه الخصب داخل مكونات هذا الفضاء العام.
وإذا كنا لا ننوي –في هذا المقام- إنجاز قراءة نقدية تفكيكية لنسق الكتابة الإبداعية لدى محمد مخلوفي، مما لا يدخل في مجال اهتمامنا ولا في آفاق اختصاصنا، فإننا –في المقابل- نرى أن نصوص هذه المجموعة القصصية تحمل الكثير من الصفات التي تجعل منها مجالا ومدخلا للتوثيق لإبدالات حقل تاريخ الذهنيات وتفرعاته المنهجية الشغوفة برصد عطاء النخب المبدعة في سعيها نحو بناء الصرح المميز للهوية الثقافية المحلية للمدينة. ومن هذا المنطلق بالذات تبدو الكتابة عن طنجة وعن سحرها الأخاذ، انعكاسا لنظيمة التمثلات الفردية والجماعية التي أضحت تثمر كل هذا الخصب في الكتابة وفي التأمل وفي التشريح. هي كتابة طنجة المستحضرة لعناصر التميز، والمنتشية بعناصر الجمال وبسكينة الروح وبطراوة الوجوه، وقبل ذلك، هي كتابة طنجة القادرة على توثيق القيم الرمزية وإعادة صياغتها في أعمال إبداعية تضمن لها البقاء والخلود.
وللاقتراب من السقف العام لهذا الأفق، يمكن الاستشهاد ببعض مما كتبه محمد مخلوفي في نصه الافتتاحي «طنجة بدر البدور»، حيث يقول: «لا أغازل مدينة طنجة ولا أحابيها، وإنما أقول عنها ما رأيته فيها، وسمعته عنها، وعشته بين أحضانها ردحا من أيامها ولياليها… وقر في نفسي أنها تعيش في مدينة ذات طابع أوربي، أو أنها مدينة تستلهم شكل وجودها منه. لا، لا، ليس الأمر كذلك بتاتا، بل هنا أيضا، في حزام طنجة كله، تتوزع أحياء شعبية، يسود فيها نفس المناخ الذي ألفته في مدينتك… كحي بني مكادة، والعوامة، وحومة الشوك، وحي الدرادب، بل وبلغ بهما حومة صدام، ثم عادوا إلى قعر المدينة، فاخترق بها الشابان «سوق الداخل»، بعد تمتعهم بمنظر الساحة الكبرى المنسقة الجنبات والمسماة بساحة تاسع أبريل، والتي كان اسمها الذائع على كل لسان «سوق برى»، ومشوا صعدا عبر الدرب الطويل الأفعواني الذي انتهى بهم إلى باب ضريح الرحالة ابن بطوطة، وفي نسبة الضريح تشكك بين الباحثين، ثم إلى المتحف الغني بالتحف الممتعة والمثيرة للانتباه، ومنه إلى القبور الصخرية، فمنطقة مرشان ذات المركب الرياضي المميز، وبعدها استراحة طويلة في مقهى الحافة، ملتقى الفنانين والمبدعين من سائر الجنسيات، ولكن أيضا ملتقى المسافرين الممتطين لظهر مواد تملأ الرئتين فتحلق بمخيلتهم إلى السماوات السبع، ولعمري، فهم وحدهم من بين سائر المخلوقات، القادرون على تجاوز سدرة المنتهى، ورؤية ما يرى وما لا يرى هناك…» (ص ص. 3-4).
ويتابع المؤلف غوايته برصد عناصر الافتتان لدى ذات إحدى الشخوص الرئيسيين لنصه، قائلا: «سكن قلبها حب المدينة، وصارت المناطق بمثابة الأعضاء من الإنسان، فحي القصبة عضو، وحومة مرشان عضو، وسوق الداخل، وسوق برى، عضوان، وسور المعكازين بل النشيطين عضو، وباقي الأحياء والحارات والمرافق والمساحات، وامتدادات الجبل، والطوق البحري الذي يتعانق فيه البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عناقهما الأبدي عند أقدام المدينة يقبلانها بموجاتهما الحانية بكرة وأصيلا، ويمجدانها بصلواتهما المكتومة مع طلوع الشمس وغروبها، وبزوغ القمر وأفوله، وتلألؤ النجوم وتواريها، كلها، جميعا مجتمعة، عيون للمدينة وآذان، وجوانح وجوارح، ورئات تتناغم متجاوبة لتشعر المحب بكيان المدينة وذاتها، ووحدتها وتفردها وتميزها عن سائر ما عداها من المدن التي نبتت هنا وهناك في سائر أرجاء المعمور…» (ص. 8).
هذا هو سحر طنجة وترياق الوجود الذي ألهم مخيلة المبدعين والكتاب والفنانين على مر العصور. إنه سحر طنجة المتجدد، حيث تغيب الجغرافيا ويندثر التاريخ لتندمج محطاته ووقائعه في إطار نسق فكري دافق بروافد متعددة، لا شك وأن جذوره ومنابعه تخترق محددات الواقع لتجنح بملكة الخيال والتخييل نحو الضفاف الرحبة للعوالم المتوسطية الفسيحة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 13/03/2019