أكبر من زيارة دولة

عبد السلام المساوي 

هنا المملكة المغربية، بلد بعراقة وديبلوماسية وحكمة صنع التاريخ واحترام أمم التاريخ الكبرى الجزء الأساسي من تعامله مع الآخرين، لذلك يبدو الفرق واضحا للبعيد، ويبدو جليا ظاهرا جد متميز للقريب مثل الصديق الفرنسي الذي يعود إلى المغرب اليوم، فيجد الترحاب ذاته الذي ألفه، والحفاوة التي تعودها، ويجد أن كل الأشياء وكل البلدان تتغير إلا المغرب، يواصل التقدم دون أن يفقد من أصله وأصالته أي شيء .
بدأ إيمانويل ماكرون، الرئيس الثاني عشر للجمهورية الفرنسية الخامسة، يوم الاثنين، زيارة دولة، تستمر إلى يومه الأربعاء، وسط اهتمام إعلامي وسياسي كبيرين، يعززه سياق وطني وإقليمي ودولي مختلف، يعتبر فيه تعزيز التحالفات والشراكات وتوطيد العلاقات وتثمينها وتغليب كفة رابح – رابح، رهانا استراتيجيا .
وتشكل هذه الزيارة، التي أتت بدعوة من جلالة الملك ، حدثا بأبعاد سياسية وإقليمية بالغة الأهمية بالمفهوم الجيواستراتيجي، وتعتبر موضوع متابعة من قبل الخصوم والأصدقاء على حد سواء، بسبب الوزن الذي تمثله فرنسا، اليوم، في الاتحاد الأوروبي، قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، ورقما صعبا في المعادلة الدولية ( عضو دائم العضوية في مجلس الأمن ) .
وتأتي زيارة الدولة لماكرون، المرفوق بعدد من الوزراء ورجال الأعمال ونخبة من الوسط الثقافي والإعلامي، في توقيت مهم جدا، تمر فيه القضية الوطنية الأولى للمغاربة من منعطف دقيق على كافة المستويات، سياسيا وميدانيا ودوليا .
هو المنعطف نفسه الذي دفع العاهل المغربي إلى تخصيص خطاب افتتاح السنة التشريعية الحالية، لموضوع واحد ووحيد، تثمين العمل الذي تقوم به الدبلوماسية المغربية ( الرسمية والموازية )، وتوجيه تحية شكر وامتنان إلى جميع الدول الصديقة والحليفة، التي اعتنقت الحق التاريخي والقانوني والشرعي والسياسي والروحي للمغرب في صحرائه، وتأييدها لمقترح الحكم الذاتي، وعلى رأس هذه الدول، فرنسا وإسبانيا .
لهذا السبب، وضع الخصوم جميع العصي والعراقيل في عجلة هاته الزيارة من أجل « ثني « الرئيس الفرنسي عن الوصول إلى المغرب، لأنهم يعرفون أن ما ينتج عنها من اتفاقيات والتزامات وعقود وشراكات وقرارات بالتحديد، سيكون بمثابة مسامير أخرى في نعش أطروحة الانفصال والارتزاق والنوايا المبيتة لسرقة التراب المغربي، تحت ذريعة بالية اسمها تقرير مصير الشعوب .
في فرنسا يقولون : « الحسابات الجيدة تصنع الأصدقاء الجيدين «، وفي العالم بأسره، ليس هناك من يقدر الصداقات الحقيقية ويحافظ عليها أكثر من المغرب .
لذلك، يصارح المغرب أصدقاءه بحقائقهم الأربع كلها ، ويقول لهم كل شيء، ويحرص على الحساب الجيد معهم باستمرار .
ولذلك أيضا، مرت الصداقة المغربية الفرنسية بسلام من منطقة اهتزاز عبرتها منذ أشهر، لأن المغرب أصر على تطبيق هذا المبدأ جيدا، وقال بكل الطرق ما يحس به وما يشعر به، ولم يسئ لفرنسا وللفرنسيين أبدا، بل واصل التذكير – في عز هذا الاهتزاز، بأن صداقته مع ولفرنسا هي صداقة لن تشيخ أبدا .
التقطت فرنسا الرسالة، وفهمت بذكائها العريق وبحضارتها الأعرق سياسة اليد المغربية الممدودة من فوق، بكل حكمة، فأمسكت بها بقوة وصافحتها وشدت عليها، وشرعت المملكة العريقة والجمهورية المتحضرة في بناء المستقبل من جديد .
مستقبل بدأ منذ القديم، ويتواصل اليوم من خلال زيارة الدولة التي يقوم بها فخامة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بلادنا، عنوان رهان مشترك بين البلدين على القادم من الأيام والأعوام، ودلالة فعلية على أن العلاقة بين المغرب وبين فرنسا هي علاقة لا تشبه، ولن تشبه، مثيلاتها أبدا .
لم تنس فرنسا، وهي لا تنسى، ولن تنسى أبدا، أن المغرب رفض باستمرار أن يقوم بابتزاز الذاكرة الذي تقوم به الجزائر مثلا تجاهها .
لحظات التاريخ الصعبة، التي عبرناها نحن والفرنسيون في لحظة معينة، هي لحظات للتاريخ، نأخذ منها نحن في المغرب الصالح ونستفيد من الطالح .
لا ننساه أبدا، لأنه جزء أساسي منا، لكن لا نسمح له بأن يعتقلنا لكي نصبح أسراه أو رهائن لديه، ولا نستغله بشكل غير نظيف، مثلما تفعل الجزائر مع فرنسا باستمرار، لكي نبتز به، ونواصل الابتزاز والمقايضة .
ما أحاط بقدوم الرئيس الفرنسي ماكرون إلى المغرب من استقبال ملكي عظيم بحمولة بروتوكولية بكل رمزياتها وأبعادها ورسائلها واستقبال شعبي بفرح وترحيب « مرحى بفخامة الرئيس وحرمه «، ما أحاط بهذا الاستقبال من حفاوة وألق ووهج، يشي بأن ما يقوم به صديق المغرب « العائد « على مدى ثلاثة أيام، هو أكبر من زيارة دولة …هي قبل كل شيء زيارة يمتثل فيها رئيسا البلدين لرغبة عارمة دفينة لدى الفرنسيين والمغاربة. إذ ينتظرون منهما معا أن يجعلا منها زيارة تاريخية بامتياز، بل وفارقة في تطور العلاقات بين الرباط وباريس، تفصل بين عهد الضبابية وعهد الوضوح، وبين ازدواجية الموقف وشجاعته، كونها أتت بعد جفاء وعقب أزمة حادة لعبت حكمة وتصميم وديبلوماسية ملكنا الدور الأكبر في حلحلتها، حتى تسنى تبديد سوء الفهم وإزالة الغيوم والتوترات بين الإليزيه والقصر العامر الرباط، وبالتالي هي تعبر عن تبلور هادئ لقناعة راسخة ونهائية بأن التنافر ليس مما يليق بعمق وتجذر الشراكة الفرنسية المغربية، وأن التعاون الوثيق والمستدام هو القدر الوحيد الممكن بين الشعبين المغربي والفرنسي. كل المقدمات والإشارات التي سبقت زيارة الدولة هاته تدل على أن شمسا جديدة ستسطع في سماء العلاقات المغربية الفرنسية .
ففرنسا حسمت أمرها، وأنهت أمام أنظار العالم وعلى رؤوس الأشهاد ترددها وجهرت به، والمغرب، الذي طالما تفهم سابقا على مضض تلكؤها في الاصطفاف إلى جانب طرحه الموضوعي، يقدر لها شجاعة تأييدها لمقترح الحكم الذاتي، واعتبارها الذي لا مراء فيه بأن حاضر الصحراء المغربية ومستقبلها لا يمكن أن يندرج إلا ضمن السيادة المغربية .
رسالة 30 يوليوز للرئيس ماكرون إلى جلالة الملك حملت كلمة السر التي تجعل المغاربة يثقون في صداقة الآخر، حين أكدت أن الحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ومستدام لقضية الصحراء المغربية. هذه الجملة المفتاحية هي التي عبدت طريق ماكرون إلى الرباط التي تستقبله بكل الترحيب والحفاوة . إنها الزيارة التي ستثبت للعالم، أو لما تبقى من العالم، أن الطريق إلى الطريق يمر لزوما عبر العيون والداخلة والكويرة .
في مجال العلاقات الدولية لاشيء يمنح جزافا، إذ كل شيء يستحق، فرنسا تعرف أنها يمكنها أن تعتمد على المغرب كبلد ارتكاز من أجل علاقات اقتصادية مجدية لها في غرب القارة الإفريقية ودول الساحل، خصوصا بعد الوهن الذي أصابها في هذه المنطقة مقابل تعاظم النفوذ المغربي فيها .
لا يخفى على باريس أيضا أن المغرب هو البلد الوحيد المستقر في شمال إفريقيا وعلى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وأنه أصبح قوة إقليمية يشار لها بالبنان بعد المبادرة الأطلسية، ودعوته إلى تمكين دول الساحل من منفذ على الأطلسي، ومشروع أنبوب الغاز النيجيري المغربي الذي سيشكل شريان حياة إلى أوربا. بهذا المعنى لا تبقى زيارة ماكرون حدثا ثنائيا يهم فرنسا والمغرب فقط، بل تعود حدثا إقليميا ودوليا يدل على التحولات الاستراتيجية المتسارعة على التوازنات المقبلة والترتيبات الكامنة التي يقتعد فيها المغرب، بفضل بصيرته الدبلوماسية، مكانة مركزية، ولذلك ينظر نظام العسكر بالجارة الشرقية إلى هذه الزيارة بكثير من الحرقة والغيظ والحنق الذي يزيد من فضحه وعزله في المشهد الدولي، ترى هل كان ينتظر في زمن فيه تشكيل العالم أن تراهن الإمبراطوريات العريقة على غير مثيلاتها من الإمبراطوريات المنغرسة في عمق التاريخ ؟ هل سيفهم، إن غادرت فرنسا مثل أمريكا وإسبانيا وألمانيا المنطقة الرمادية، أنه قد انزاحت من عينيها الغشاوة، وقررت أن تعالج خصوم وحدتنا الترابية بالصدمة بأن تنتصر للحق والمشروعية ؟
عاشت الصداقة المغربية الفرنسية، المستقبل واعد…

الكاتب : عبد السلام المساوي  - بتاريخ : 31/10/2024