أورويل يعود: (الأخ الأكبر) معكم حيثما كنتم!

أحمد المديني

مذ دخلت البشرية ما يمكن تسميته دورةَ الوباء، إلى جانب دورة الاحتباس الحراري وكوارثه، وهي في دوامة أسئلة بعد أن استقرت في وضعية الإصابة، وطفِقت تحصي موتاها. كان طبيعيا أن تنتج بعض العقول والنفوس أراء أو تصدُرَ عنها ردودُ فعل غيرُ عقلانية أو عاطفية وأخرى ساذجة مُنكرة، سواء آمنت بالعلم أم أنكرته، اشرأبت بأعناق ملتفتة إلى ماضٍ تساقطت فيه مئات الآلاف من الأجساد بسبب أوبئة وأمراض فتاكة انتصر عليها العلم وباتت ذكرى فواجع، أو هي أمعنت في الاستنكار لا تقبل ما تراه يحدث ويقلب حياة الناس رأسا على عقب. سمعتُ كلمات منه من أفراد عاشوا وقتا من الحرب العالمية الثانية ومن الهلوكوست النازي ونجوا من موت محقق وهم لا يصدقون أن الوباء ظاهرة من الطبيعة، وغيرهم ليسوا مهلوسين اعتبروا الأمر مؤامرة، مؤامرة كونية، متعددة الأطراف، عزَوها إلى قوى العولمة الاقتصادية الجديدة المهيمنة، إلى الصين التي اتهموها بنزعة التوسع والسيطرة على العالم(هذا كان صك اتهام دونالد ترامب الأول في حربه المفتوحة ضد بيجين)، وأسرف بعض في أنها عملية لإعادة تقاسم العالم بين قوى عظمى عبر بسط سلطتها على الشعوب ورفع السلاح البيولوجي كأكبر قوة ردع. وقبل أن نقرأ بإيجاز هذا البعد علينا أن لا نستخِفّ بما سمعنا من آراء ونستهين بعقول أصحابها كما يقول بعضنا في المغرب إن سمع رأيا يؤوله شططا؛ فينقذف صاحبه حقيقة أو مجازاً(هذا خصُّه برشيد) والحال أن برشيد حاضرة ماضيها وحاضرها عقلاء فرسان الشاوية!
من يتأمل، سوف يجد أن وباء كورونا فرض نوعا من (المؤامرة) لا تلك التي تتم تحت جنح الظلام، أو يطلقها سحَرةٌ ودجالون مع حرق البخور، ولا هي من تدبير مخربين، بل صانعوها عقلاء جدا، بل عباقرة، ليسوا جيوشا ولا فيالق بالدبابات وقاذفات الصواريخ، دعك من طائرات مسيّرة يهدد بها شرذمة من الحوثيين اليوم الرياض والدّمام، إنهم أفراد فقط، أوليغارشية موزعة على الكرة الأرضية جمعاء تجتمع في عواصمها داخل قاعات مغلقة وهي تحمل عديد تسميات، تقرر ما تشاء بناء على تقارير تقنو طبية علموية ولأهداف تعلنها شبه طوباوية للقضاء المبرم على الوباء كما تتوهم مؤسسات أمنية بمزعم استئصال الجريمة بينما هي وضع بشري بين أوضاع، واسألوا دوركهايم. باسم الحفاظ على صحة المواطنين في هذه النازلة، ولمواجهتها أعلنت(الحرب) (Nous sommes en guerre) أنذر الرئيس الفرنسي ماكرون في(16 مارس 2020) وها مرّ عام والحرب لمّا تضع أوزارها بعد، وكما قال، فهي ضد عدو خفي ومجهول. وبالطبع، مع الحرب تستخدم كل الوسائل لمواجهة العدو، وصف ضراوتها زهير بن أبي سلمي :» وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم/ وما هي عنها بالحديث المُرَجّم» وهذا قرونا قبل أبولينر (1880ـ1918) المسكين إذ تغنىّ:» يا إله، كم هي الحرب جميلة» مفارقة، لم يمت فيها وقتلته ( الأنفلوزا) الإسبانية.
ولقد علمت البشرية وتجرعت مرارات هذه الحرب، لن نسترخص أرواح من سحقتهم المنيّة بلا رحمة، تاركة جراحا لن تلتئم، بيد أن أخطرها وربما أدوَمها حين سينضم الكوفيد 19إلى سجل سابقيه من أوبئة، لترى البشرية كيف أنها أضحت خاضعة كليا أو تخلت عن حقوق أساس، منها المسجل في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان»(1789) متنازلة عنها شبه طوع لهذه الأوليغارشيات، كفّ المحللون عن تسميتها أو وصمها، و» استوى الماء والخشبة» ومُسحت الفروق بين الديموقراطية والدكتاتورية حتى نُظر إلى الاستبداد نقمة في طيّها نعمة لا العكس.
لا شعار أو قانون يعلو على (الاستعجال والأمن الصحي) كأنما هذه الأنظمة اشترت من شعوبها أنفسها بهذا المقابل، وهي حتى في الغرب العنيد العاض على حقوقه بالنواجذ صار مطواعا من تتابع تنازلات تدريجية فرضتها التكنولوجيا من قبيل: التعرف على الوجه من جهاز الهاتف، الكاميرات المنصوبة للمراقبة، درون يحلق فوقك يصورك وربما يسمع وشوشتك لحبيبتك وأنت مسترخ على العشب، لو عرفه إدوار ماني لصُرع قبل أن يرسم لوحة الانطباعية العالمية» الغذاء على العشب»(1863)، أضف ضبط مكان وجودك(وليس تواجدك!) عبر الأنترنيت، وصولا إلى خوارزميات التعرف على مشاعرك. هذه الترسانة الرهيبة من أدوات المراقبة بإجماع علماء الاجتماع ولا مبالاة خبراء المعلوميات والتقنيين المتخفين في المؤسسات الأمنية ووكالات الاستخبارات، نقلت، بالأحرى حولت المجتمعات والحكومات إلى دول بوليسية، دون صفة قدحية، بالضرورة، والمجتمعات غدت عرضة للخوف وسريان الريبة والتوجس وحتى شرعنة التبليغ عن الغير.
لا عجب إذ تشهد المحافل الأدبية اليوم، الغربية خاصة، عودة مظفّرة للروائي الإنجليزي جورج أورويل Orwell (1930ـ1950) أعيد نشر روايته الأخطر والأشهر «1984»(1949)) بعدها «مزرعة الحيوانات»(1945) عشرات الطبعات والترجمات، منها العربية، وأغلبها سائب، الأولى، بالذات، لموضوعها المنصبّ على رسم عالم المراقبة وخنق الحريات كما فرضه(الأخ الأكبر big brother) على شعبه، من خلال القصة المرعبة التي عاشها بطله ونستون سميت الموظف في (وزارة الحب) وأصبح كناية عن الأنظمة والمؤسسات إذ تضرب في العمق الحقوق الجوهرية وتنتهك الحياة الخاصة. هذا كله ضمن تيمة مناهضة التوتاليتارية التي تعتبر محور التفكير السياسي لأورويل في جو الحرب العالمية الثانية واكتساح النازية والشيوعية، بينهما عاش مثال الاشتراكي مدافعاً عن المظلومين، وقد تقلّب في تجارب استعمارية وحربية ونضالية خبر فيها حياة العمال الكادحين. وإذا كانت( مزرعة الحيوانات) بمثابة نقد لنظام قائم، فإن 1984ـ هي أعمق وأبعد من تأويلها الاستنساخي السائد (الكليشي) الذي حولها إلى نعت على دلالة مضمونها العام، الأورويلية، مقابل الكافكاوية نسبة إلى فرانز كافكا، والتي تطلق بتعميم لا معرفي شأن السوريالية؛ تضرب المنطق التوليتاري في الصميم مما سمح لأورويل باستخلاص خطه الأبرز من كشف مراميها واستراتيجيتها الهادفة إلى» تدمير الحقيقة» وهذا ما كان مكلفا به ونستون سميت وحاول التلاعب به لتفادي تزوير كتابة وملفات التاريخ لتلائم حسب مرؤوسيه حاضرا مكذوبا عليه وقمعيا، ورغم استتابته بعد انكشاف أمره فلا أحد ينجو من رقابة (الأخ الأكبر) سلط عليه العقاب الحتمي، ليس أرعب منه ما يختصره قول أوبريان الموظف الغامض في حقه:» سنُفرغك، سنعصرك، ثم نعيد ملأك من جديد منا»، كذلك يفعلون!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 17/03/2021