إن سماءً مثقلةٌ لهذا الحد لا تنجلِي بدون عاصفة!

أحمد المديني

1

أكتب لأني لا أملك اليقين. غيري يفتي ويتجهبَذ بمطلق اليقين. يفتي في شؤون الدنيا والدين. الكون والآخرة تراه يبسطهما على كفين. ويسهب في العطاء، لا يكلف ثمنا ما دام يَعِدُ الشعب بسخاء. الكلماتُ في جرابه سلعةٌ له منها رصيد بأطنان مثلَ لفظه غُثاء. لا ينفع، لا يقدم معهم لايؤخر إن قلنا، نعي بأننا إنما نصيح في واد، يا هؤلاء، اؤلئك، سلعتكم بارت، باتت هراء.
2

يُعاب على المثقفين والكتاب وأهل التنوير عموما أنهم غابوا، انسحبوا إلى الظل، انكفؤوا على همومهم، خابت آمالهم، أُحبطوا، انكسروا، دالت دولة المبادئ التي من أجلها دفعوا الروح وكل نفيس. ثمة من يريد منهم أن يكونوا ويبقوا أبطالا وشهداء مدى الحياة، غافلا أنهم أيضا بشر كسائر الناس مع فطرة قوية من الكرامة ورفض للمساومة والخنوع. لكن، غير مقبول أن يتحولوا إلى مهللين وأتباع بأجور مختلفة وإلى شهود زور. موقفي وخطابي ثابتان، أن لا مساومة مع الخطأ، ربما للسياسي المحترف أعذاره فهو يتعامل مع الظرفي ويفاوض. أما أنت أيها الكاتب، أيها المثقف، رهانك على الحلم، لا تُعذر أن تساوم أو تصمت على الزراية.
3

لمن لا يهمه الأمر؛ لمطلق وحدتي. عند الصحفيين سؤال مُلِحٌّ ومُملّ يطرحونه على الكاتب: لمن تكتب؟ ومعلوم أن أول ما يسطُر شخصٌ بالقلم إلا وفي الخاطر والذهن قصدٌ ومُرسلٌ إليه، وإن غائماً وملتبسا. ويبقى من حقه أن يخاطب نفسه وفي هذا درجات وأشكال تَرقى أحيانا إلى أعلى عليين، في صعيد مطلق يلتقي فيه كل صاحب مطلب ومتحيِّرٍ وذي حنين. من قبيل هذا المقطع الشعري للمصري صلاح جاهين:
« بعد الطوفان الجو شبورة[ضباب]/ ننده لبعض بهمسة مذعورة/ بشويش نمد الإيدين/ يا اللّي انت جنبي إنت فين/كان فيه طوفان وخلاص/ مبقاش طوفان/المَسني ونسني أنا حيران»
4
لن أشيخ في الحنين، ولا أقبل كذلك إفراغ الكلمات من المعنى ولا رميَ الوجود إلى البدد.
نحتاج اليوم لكي نعيش إلى قوة تضاهي ديمومة الفصول، أنّى لنا بهذه القوة، فنحن زائلون. لنعش، إذن، ونذهب بمقدار ما نستطيع من كبرياء، ونمشي بهامات مرفوعة وبملء أُبّهة. أيها الذين تستخدمون الكلمات للتعبير عن شيء، وحتى لكيل الشتائم والمتاجرة، أيها المنتشرون الآن سِرّاً وجهرا، المتنصّتون خلف الأبواب، البصّاصون، المتجسّسون حتى على الأحلام، البائعون تاريخهم بأبخس الأثمان، سيبقى دائما من يدلّي في وجوهكم لسانه سخريةً بعد أن شَرَوكم شماتة، سيظل ناس شرفُهُم من شرف الكلمات، من أجلها ظهر الأنبياء، سقط الشهداء، وللخبز مذاق، للشمس نور، وللطير أجنحة، وللحرية رفيف، انظروا في العلياء.

5
خريف هذا العام دعاني إلى الضفة الساحلية من منطقة النورماندي شمال غربي الأطلسي الفرنسي. جعلت محطتي الأولى مدينة دوفيل. اطمئنوا لست مقامرا لأخص الكازينو بالزيارة. ربما أفعل نزوةً حين ألعب بالمال. أجمل منه المارينا والبحر بسخاء متاحان؛ وبهاء الطبيعة واتّساق العمران والبهجة عنوان. هناك ما هو أهم، سكنى النفس ومنها السكينة، ثم أجدف في مناكب النورماندي حيث لي أحبة وذكريات، ولأصل إلى مكان السِّحر هنا وُلد أعظم الأدب.

6
قصدت في يومي الأول بلدة Cabourgالمنتجَع الساحلي للنورماندي حيث أمضى مارسيل بروست من 1907 إلى 1914 عطله وإقامات شرع خلالها في كتابة روايته الذاتية الموسوعية» البحث عن الزمن الضائع». هكذا وبعد أزيد من قرن أُجاوره في إقامته بفندق le Grand hôtelوهو النزيل الدائم في الغرفة رقم 414. لم يُسَمِّ المكان وإنما كنّى عنه باسم Balbec. هنا، في كابور، حيثما تنقلت تجد بروست حاضراً. في الواجهات، وعلى القمصان وعلب البسكوت والأقداح، كما مُهدى له في الشاطئ ممرُّه المديد مشتهر بنزهته فيه على امتداده صُورُه في أعمار مختلفة. شعوب تعرف كيف تحول الكتاب إلى ثروة وطنية.

7
دائما في خطى بروست، هنا في كابور في قلب الكالفادوس توجد Villa du temps retrouvé. دارةٌ تعود إلى 1867 شُيِّد عليها حديثا جدا متحف يحتفي بالحقبة الخلاقة والباهرة في فرنسا المسماة la Belle Epoqueولبروست فيها طابق خاص بأثاثه ومكتبه ومخطوطاته وأوراقه تلِجها فكأنك معه هو الذي عاش وعمل دائما خلف الستائر. هنا كان ينزل عند صديقه مالك الدارة، وأحفاده لم ينسوا هذه الحظوة عند جدهم فأكرموا صديقه، إنه رُقِيُّ الأمم بكتابها.

8
إذا جئت النورماندي وفاتتك Honfleur فقد خسرت جُلّها. أزيد اقتناعا بهذا في كل زيارة. قبلي بودلير وفلوبير، وبالطبع بروست، ومارغريت دوراس انتقلت معها بين هونفلور وبلدة Trouville لها بيت منتجعها وللأصدقاء، وستأكل سمكا مشويا تشمه رأسا قادما من الماء. فمشيت من جديد الهوينا طربا وحزينا تهدهدني الذكريات، حائرا تراني من حاضري أقتات، أم من سوناتا ما فات. أوه، تبا للحزن، لفرنسواز ساغان، رأيتها بالعيان، قامرت بكل شيء إلا بالحرص على جو الكتابة ودقة الكلمات، وطفقت عيناي ترمش فوق جسد مشعشع بالضياء.

9
«هل عندك شك سيدتي؛
هل عندك شك؟!»
هو ذا البرد إلى العظم سكين نفذ
هجم الشتاء والخريف نفذ
حتى إيفيل تخالين جلده قد جمد
« هل عندك شك سيدتي»
أن حبك دمٌ يسري في حتى الأبد
ولأجلك أكظِم غيظ اليوم لغد
في البرد الدافئ لهواك، سأبقى
أما أنت أنا، نبقى سويا أو لا أحد.

10
.. وقد اشتد الغيم والغمّ واضطرم الغضب، نظر شكسبير إلى السماء فرآها صنو نفسه وقال: «إن سماء مثقلة لهذا الحد، لا تنجلي بدون عاصفة!».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 15/12/2021