احذَروا لصوصَ الغد وقراصنةَ العدم والأمل!
أحمد المديني
بسبب اليأس أو خيبات متكررة تراجع اهتمامُ المثقفين وكثير من مكونات النخبة المغربية عن متابعة الانتخابات في مستويات شتى، والمؤسسات التي تنبثق عنها، وكأن التشريع وأيّ تدبير لا نفع منهما طالما ثمة طبقة سياسية، بالحَرِي فئات إما هجينة أو منخورة، أو متسلطة على ميدان ليست أهلا له، وتقتحمه، لا من أجل المصلحة العامة، ولكن مدفوعةً لإسناد طبقة متحكمة، معها في الطريق حصد مكاسب عاجلة تتوجه بطموح جاه ينطلي على المغفلين والبلهاء وكأن البرلمان عندئذ في عُرفهم، هم الممثلون فيه، سيركٌ للفرجة والهزل والضحك.
اليوم تذهب بلادنا لخوض انتخابات جديدة، للبرلمان والجماعات، وكما هو الوسواس لازَمَ استحقاقات سابقة من نسبةِ عزوف عالية وترك المجال فسيحاً للعابثين والفراغ، منه التخلي المضاعف لنخبنا ـ جزء ضئيل جدا منها حاضر في غرفها ـ تبدو تاركة الحبل على الغارب يأساً من أي إصلاح طالبت به وأفلت من يدها الزمام، فانعزلت وانقطعت حتى عن الكلام.
نعم، الصمت أحيانا لغة الحكماء، واللغط دَيْدن الغوغاء والسّفهاء، فهل يُعقل أن نوازن بين الكفتين، أو نقارن بين وضعين في درجة تعارض قصوى، لكن ـ من حزَن ـ أن الغلبة دائما للأقوى، ولزوم الصمت والاستكانة بلوغا إلى الانعزال يضعنا لقمة سائغة تمضغنا طغمة من الجشعين، تتحكم في توزيع الأرزاق، وتتدخل في شؤون الحلال والحرام، وتجيز وتمنع ما تشاء من أذواق، وتتداولنا في منافعها مع الأيام، واللهِ لا تُلام، لأنّا إما جبُننا أو تداعينا للفراق.
لم أحترف السياسة يوما وإن كنت شممتها في الهواء، نحن جيل الدار البيضاء الستيني والسبعيني تربينا عليها مع لقمة الخبز وجرعة الماء، وامتُحننا فيها حتى دُبِغ الجِلد ومنها لا شفاء. أومن أن لكل امرئ أو ينبغي أن يكون له شاغل واختصاص، وكل لما يُسِّر له، فيه يُظهر البذل والعطاء، لذا ألوم غيري في تهافتهم على الموائد والأطماع، يبيعون الوجه برخص ويساومون ويُسامون الخسف، الأدهى من أجل الشعب، يدّعون، وباسمه؛ من هؤلاء؟!
لسنا منهم، لكن هل نتركهم يعبثون، لطالما عاثوا في الأرض فسادا، أكلوا الحَب والزّؤان معه وذرّرونا غبارا، وكنا احترقنا قبلهم رمادا؟ هل يكفي أن نشيح عنهم وجهنا وننحى باللائمة على الدهر وحظنا العاثر أنا ابتُلينا بسلالة عجفاء، معطوبة الضمير، عيٌّ لسانُها، مجروحٌ كلامُها، أعجازُ نخل خاوية؛ ثم حين ينفضّ الجمع، يوم تبيّض وجوههم وتسودّ وجوهنا نأوي إلى مضاجع كآبتنا نجتر كوابيسنا، وإلى المقاهي نمضغ لغونا بنمائم منمّقة نُحلّي بها حنظل عيشنا، ويتسع رُكح المسرح لتمثيلية الواصلين والمارقين، يرتدون لبوس الإصلاح والإرشاد ودعاة اليقين، سيؤدون مرة أخرى نمرة قديمة بإخراج وأزياء في أعينهم جديدة، أوف إنهم يعيدون الكرّة ولا يملّون، إنما يرتدون أسمالا وعلى الوجوه أقنعة، القاعة فارغة هم الممثلون والجمهور، من جهة يٌسمع شخير، وفي الشوارع صراخ وصفير، وفي الكواليس أصابع تشد الحبال تحرّكها ليرقص هذا ويغني ويشتم ذاك، وحتى تلك تبكي، لما تنتهي المسرحية يلتقون في البهو بالبوس والعناق، بروفة للشعب فقط، وأنا أخشى على وطني الهلاك، فهل من فكاك؟!
ليست مقالة التشنيع، ولا الترهيب والترغيب. كلاّ. الانسحاب والتخلي ليسا حلا، ولا اليأس يُعدّ ملاذا. صمتنا عندهم عيد ويقتاتون حتى برفات الأموات. لكم أخشى من الكلمات واقترب منها بحذر، بل خوف، مُغرية وخادعة ومنزلق هي. لا أكتب أو أتكلم من القاموس، إنه مبذول في الطريق، ولا ميّال للشاذ والغريب في بطون أقوال العرب، أنا. أنحت كلماتي من جَماع أقوال اللغات، أصقل كل مفردة على حدة، وأشحنها بجوارحي، وأشحذها حتى لا أبقي إلا الصدى والفُتات، فهي هاربةٌ دوما وحصرُ المعنى في العبارة ضربُ استحالة، لذا أعجب ممن يقول أعتقد، ولي اليقين، وأسمعه جهوريَّ الصوت، ينفخ بوقا صدئا في الفلاة. لذلك الكتابة من جنس الصلاة، لأنها تعلم الخشوع والرهبة والتطهّر من أدران الزيف والتطلع إلى الخالق واهب الإبداع المُرتجى، كأن الكلمات تراتيل وأشواق تصعد إلى السماء بالصلوات.ولهذا الكاتب يحتاج أن يكون وحده، عزلتُه سكناه، ولغته خياله جنونه ومذهبه، وهو لا يدّعي أنه يمثل أحدا، ولا يريد أن يحكم بلدا ولا أحدا، والقصيدة الواحدة تكفيه زادا وولدا، وفي القلب الجموع، لا يقول أبدا أنا أتحدث باسمها على شبع أو تجوع، وثمة من يريده أن يكون يسوع.
وأعود أنظر إليهم دهِشا، من أين يأتون برُزَم الكلام، يستوي في منطقه الصالح والطالح، الخاسر والفالح، الناسخ والمنسوخ، من أين؟! لذلك أدعو إلى الحذر، بل أدق ناقوس الخطر، خاصة ممن يعِدون بالجنة في الأرض، ونحن نعلم مقدار ما بين وتحت أقدامهم من خراب. أعلم هذا صعب، لأن المفسدين وسماسرة العدم والجنة استولوا على أنواع الخطاب، المقدمات والنتائج، مسحوا القواميس ومسخوا الشعارات كلها فأصبحت تتشابه بل وحّدوها ليختفي الفارق، ليعبروا في السديم وسحاب المحو متشبهين بالرسل والزعماء وهم مشعوذون ومنتحلو صفات ومحتالون، السياسة عندهم قمار، والوطن طاولته، والشعب بيادق لعبة وأرقام رهان، تحسب طنين الذباب عزف كمان، ويصطبغ اللون الواحد بالألوان، والوجه يلبس أكثر من قناع يتفوق على البهلوان. يغمسون أقلامهم في محبرة تاريخ غيرهم صنعه بأيدٍ محفورة على قضبان الزنازن، وترطن ألسنتهم بما يجهلون وهو يعلمون يقينا أنه كمد الأحرار لا يتحرجون أن يَلِغوا في دم الشهداء، وستسمعهم يَلغون بالديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية ودولة الحق والقانون، لا ذاكرة لي لأحفظ كل لغوهم، أو تلك القيم العظيمة المنهوبة من سجل التاريخ النضالي العريق للآخرين، لا يأبهون يزايدون عليهم، فالدّجال هو هكذا صفيق وبهتان.
سأكفّ عن لوم هؤلاء،لألتفت إلينا نحن المستهدفين بالدجل والافتراء وابتزاز صوت الشعب. بإمكاننا أن نسفههم وندحَرهم، بأن ننتزع حقنا وحريتنا في الاختيار، حين يمكن أن نميز بين الأبيض والأسود، نسترد القرار. أن نخرج من صمتنا ونقطع دابر من يتاجر في غدنا فلا يشترينا بشروي نقير ويقايض بنا في سوق نخاسة ليقبض أكثر، لا يعنيه كذاب هو أكبر أم أصغر. يتاجرون بالحرمان، بالقوت الأدنى للإنسان، بكرامة وآمال من ينحني غافلا أنه يهان، وفي الجوف غضب والعين شرر لا يحفلون أن تأتي على الأخضر واليابس ما دام الشعب غنيمة. في المشهد الأخير من المسرحية أردد مع الكورس:
عمري، عمر مضى/ رباه كيف انقضى/
أهو الحنين أم الصّدى/
أخشى دق ناقوس الردى/
أمس فات/ لا يوم أراه آت/
آه، كم أخاف علينا من غدا!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 01/09/2021