الاستثمارواللاتمركز الإداري في خطب جلالة الملك

صابرين المساوي

جاء في الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس، يوم الجمعة، إلى أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشر:
«وإننا نراهن اليوم، على الاستثمار المنتج، كرافعة أساسية لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحقيق انخراط المغرب في القطاعات الواعدة ؛
لأنها توفر فرص الشغل للشباب، وموارد التمويل لمختلف البرامج الاجتماعية والتنموية.
وننتظر أن يعطي الميثاق الوطني للاستثمار، دفعة ملموسة، على مستوى جاذبية المغرب للاستثمارات الخاصة، الوطنية والأجنبية.
وهو ما يتطلب رفع العراقيل، التي لا تزال تحول دون تحقيق الاستثمار الوطني لإقلاع حقيقي، على جميع المستويات….»
«وهنا نريد التركيز، مرة أخرى، على ضرورة التفعيل الكامل لميثاق اللاتمركز الإداري، وتبسيط ورقمنة المساطر، وتسهيل الولوج إلى العقار، وإلى الطاقات الخضراء، وكذا توفير الدعم لحاملي المشاريع.
ولتقوية ثقة المستثمرين في بلادنا، كوجهة للاستثمار المنتج، ندعو لتعزيز قواعد المنافسة الشريفة، وتفعيل آليات التحكيم والوساطة، لحل النزاعات في هذا المجال».
لقد تعلمنا أنه لا يمكن قراءة الخطب الملكية بدون الرجوع إلى مضامين الخطب السابقة، وأن هناك خيطا رابطا بين جميع الخطب الملكية، وبالتالي فإن أي قراءة لا تأخذ بعين الاعتبار الخطابات السابقة تبقى قراءة معيبة وتزيغ عن الصواب.
عندما نقرأ خطاب اليوم، فإننا نستحضر بشكل أوتوماتيكي خطبا ملكية أخرى حملت معها ثورات هادئة في مجالات الإدارة العمومية والديبلوماسية والجهوية المتقدمة ومراكز التكوين المهني والتعليم ومراكز الاستثمار الجهوي وميثاق اللامركزية والجهوية ومغاربة العالم …وغيرها من المجالات التي تهدف إلى تحسين حياة المواطن وتجويد الخدمات العمومية، وتسعى إلى تحقيق مقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية…
لقد جاء في أكثر من خطاب ملكي، أن تشريح وتشخيص الواقع بكل جرأة وموضوعية ليس نقدا هداما ولا يدخل في خانة جلد للذات، لكنه نقد بناء خاصة وأنه مرفوق دائما بالاقتراحات والحلول الاستعجالية والاستراتيجية..
لقد شكلت خطب جلالة الملك محمد السادس جيلا جديدا من الخطب، إذ تميزت بالواقعية والموضوعية والجرأة، سواء في مجال تشخيص الواقع وانتقاد أداء المؤسسات والمرافق العمومية أو في مجال طرح وصفات الحلول الاستراتيجية …

«بدون مواطن لن تكون هناك إدارة»

يقول جلالة الملك محمد السادس ضمن نص خطاب وجهه إلى أعضاء البرلمان برسم افتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية يوم الجمعة 14 اكتوبر 2016 «الهدف الذي يجب أن تسعى اليه كل المؤسسات هو خدمة المواطن؛ وبدون قيامها بهذه المهمة فإنها تبقى عديمة الجدوى، بل لا مبرر لوجودها أصلا. وقد ارتأيت أن أتوجه اليكم اليوم، ومن خلالكم لكل الهيئات المعنية وإلى عموم المواطنين، في موضوع بالغ الأهمية هو جوهر عمل المؤسسات وأقصد هنا علاقة المواطن بالإدارة، سواء تعلق الأمر بالمصالح المركزية، والإدارة الترابية، أو بالمجالس المنتخبة، والمصالح الجهوية للقطاعات الوزارية…»
ويواصل جلالة الملك «أقصد أيضا مختلف المرافق المعنية بالاستثمار وتشجيع المقاولات، ومن قضاء الحاجيات البسيطة للمواطن، كيفما كان نوعها؛ فالغاية منها واحدة، هي تمكين المواطن من قضاء مصالحه في أحسن الظروف والآجال، وتبسيط المساطر ، وتقريب المرافق والخدمات الأساسية منه. أما إذا كان من الضروري معالجة كل الملفات، على مستوى الإدارة المركزية بالرباط ، فما جدوى اللامركزية والجهوية، واللاتمركز الإداري، الذي نعمل على ترسيخه منذ ثمانينيات القرن الماضي..»
ويؤكد جلالة الملك أن المرافق والإدارات العمومية تعاني من عدة نقائص تتعلق بالضعف في الأداء وفي جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين، ويقول إنها «تعاني من التصخم وقلة الكفاءة، وغياب روح المسؤولية لدى العديد من المواطنين» وأن «الإدارة تعاني، بالأساس، من ثقافة قديمة لدى أغلبية المغاربة …فهي تشكل بالنسبة للعديد منهم مخبأ يضمن لهم راتبا شهريا، دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه»…ويضيف جلالة الملك «المسؤولية تتطلب من الموظف الذي يمارس مهمة أو سلطة عمومية، والذي توضع أمور الناس بين يديه، أن يقوم على الأقل بواجبه في خدمتهم والحرص على مساعدتهم. والواقع أن الوظيفة العمومية لا يمكن أن تستوعب كل المغاربة، كما أن الولوج اليها يجب أن يكون على أساس الكفاءة والاستحقاق وتكافؤ الفرص.»
ويؤكد جلالة الملك أن « إصلاح الإدارة يتطلب تغيير السلوكات والعقليات ، وجودة التشريعات ، من أجل مرفق إداري عمومي فعال في خدمة المواطن …فالوضع الحالي يتطلب إعطاء عناية خاصة لتكوين وتأهيل الموظفين، الحلقة الأساسية في علاقة المواطن بالإدارة، وتمكينهم من فضاء ملائم للعمل، مع استعمال آليات التحفيز والمحاسبة والعقاب، كما يتعين تعميم الإدارة الإلكترونية بطريقة مندمجة، تتيح الولوج المشترك للمعلومات بين مختلف القطاعات والمرافق…»
إن « الجهوية المتقدمة، التي أصبحت واقعا ملموسا، تشكل حجر الزاوية الذي يجب أن ترتكز عليه الإدارة في تقريب المواطن من الخدمات والمرافق ومن مراكز القرار . (…) فعلى الجميع مواكبة التطور، والانخراط في الدينامية المؤسسية والتنموية التي نقودها ببلادنا، والكل مسؤول عن نجاعة الإدارة العمومية والرفع من جودتها باعتبارها عماد أي إصلاح وجوهر تحقيق التنمية والتقدم، الذي نريده لأبناء شعبنا الوفي ….»

الكفاءة أساس النجاعة

ويعتبر خطاب العرش ، 29يوليوز 2017، أن العديد من الموظفين العموميين لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية، مشيرا إلى أن العديد منهم لا يقضون سوى أوقات معدودة داخل مقر العمل ويفضلون الاكتفاء براتب شهري مضمون على قلته بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي …
يقول جلالة الملك « ان من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات، التي تقدمها للمواطنين …»

في الحاجة إلى جيل جديد من الكفاءات

خطاب العرش ليوم 29 يوليوز 2019 ، خطاب له خصوصية تاريخية، إذ يؤرخ لعشرين سنة من حكم الملك محمد السادس، وعشرين سنة من الخطب والتواصل المباشر مع شعبه أينما كان، سواء داخل الوطن أو من مغاربة العالم …
لقد تضمن خطاب العرش لسنة 2019، بعد تشخيص واقعي، طرح حلول عملية بلغة واضحة لا تحتاج إلى كثير شرح أو تأويل، وأن المغرب يحتاج للمرحلة الجديدة أدوات جديدة وآليات جديدة من نخب وطنية ذات كفاءة عالية وضخ دماء جديدة، سواء في المسؤوليات الحكومية أو الإدارية …
إن لغة خطاب العرش لسنة 2019 هي لغة سلسة تفهمها كل الفئات المغربية، لوضوحها وواقعيتها، وللقفز إلى جانب الدول المتقدمة يلزمنا جيل جديد من المشاريع وجيل جديد من الكفاءات وجيل جديد من عقليات التسيير، وهو ما عبر عنه الخطاب بثورة ثلاثية الأبعاد، ثورة في التبسيط وثورة في النجاعة وثورة في التخليق .
خطاب قوي ، صريح ، حاسم وصارم وجريء…مغرب اليوم يختلف عن مغرب الأمس اختلافات الكون كلها، وحده شيء أساسي لايزال ثابتا في النبض : حب الوطن وخدمة المواطن .
خطاب العرش توسل حقلا دلاليا معظمه يدور حول الإنسان والمواطن المغربي، تم توزيعه على كل محاور الخطاب بدءا بتقديم الحصيلة لعشرين سنة من الحكم ، قوامها ملكية مواطنة تعتمد قانون القرب من المواطن، مرورا باعتراف عدم شعور المغاربة بثمار المنجزات، وانتهاء بجعل هدف تحسين ظروف عيش المواطنين البدء والمنتهى لكل تخطيط وتنفيذ وسلوك .
لم يختر محمد السادس النصف المملوءة من الكأس للاحتفال بمنجزات عشرين سنة من الحكم ، بل اختار النصف الفارغة وركز على نبض الحركات الاحتجاجية وتشكي المغاربة من أوضاع اجتماعية صعبة . توسل جملة باذخة بالإنسانية ليقول للمغاربة إن قلبه يعتصر ألما لاستمرار الحاجة والخصاص لدى النزر القليل من المغاربة ، فاتحة شراع الأمل لتجاوز هذا الوضع عبر تشريح شجاع لمعيقات هذا الطموح ، بدءا بالمؤسسات والأفراد والعقليات ، معتبرا أن بناء النموذج التنموي يحتاج تشخيصا واقعيا مهما كانت قساوته ، ويحتاج قبل كل ذلك لعقلية ودماء قادرة على الخلق والإبداع، منتقدا القطاع العام وآلياته الباردة في التجاوب مع طموح التحديث والتغيير .
التحديث والتغيير سيتم من داخل ثلاثية متلازمة تقوم على التبسيط والنجاعة والتخليق، من داخل استمرارية لما هو صالح من التصورات والأدوات، ولذلك يقدم الملك اجابات مترابطة لعتبات تبني هذا النموذج، بدءا من تحفيز المؤسسات القائمة، وعلى رأسها الحكومة، للقيام بمبادرات لتجويد أدائها وضخ دماء قادرة على تمثل النموذج التنموي المأمول، مرورا بالمؤسسات العمومية المعنية بالاستثمار والخدمات لتغيير جلدها المترهل ، عبر منح الكفاءات فرص قيادة التغيير داخل دواليب الإدارة والمؤسسات .
يقول جلالة الملك : « فالمرحلة الجديدة ستعرف ان شاء الله ، جيلا جديدا من المشاريع . ولكنها ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات ، في مختلف المناصب والمسؤوليات ، وضخ دماء جديدة ، على مستوى المؤسسات والهيئات السياسية والاقتصادية والإدارية بما فيها الحكومة . «
خطاب العرش كان قويا، صارما، صريحا، لم يكتف هاته المرة بقولها « نحن نريد سماع الحقيقة كاملة عما يجري في بلادنا وإن كانت قاسية ومؤلمة « ، لم يكتف هاته المرة بقولها مثلما هي للمسؤولين والمواطنين، بل مر إلى اقتراح البديل وإلى وضع المرحلة الجديدة للبلاد عنوانا للقادم .
المغاربة الذين يقولونها بكل اللغات عن تبرمهم ومللهم من وجوه بعض المزمنين الذين لا يريدون الرحيل، سمعوا ملك البلاد يقول بأن الحاجة ضرورية اليوم لكفاءات ووجوه وطاقات جديدة ….أن هذا الملك يريد العمل ، ويبحث عن الصادقين للعمل معه .
نعرف ان المغرب هو بلد كفاءات، وبلد شباب، وأخرين أقل شبابا قادرين على إبداع كل الطرق والحلول للنهوض ببلادهم والسير معها جنبا إلى جنب في كل مراحلها، وأساسا في مرحلتها الجديدة المقبلة.
هناك اقتناع، هناك توافق بين الملك وبين شعبه ؛ أن الحاجة ماسة إلى الوجوه الجديدة، والكفاءات الحقيقية الجديدة، والطاقات الشابة التي يمتلئ بها خزان هذا البلد حد الإبهار .
وهذه المرة كانت واضحة أكثر من المرات السابقة، وتقول باسم الشعب وباسم الملك معا ان الحاجة ماسة لضخ الدماء الجديدة في العروق ، التي لم تعد تستطيع الاشتغال بشكل سليم …ان المسالة تهم مستقبل بلد بأكمله .
خطاب 9 مارس 2011 قدم وصفة لأفق دستوري بدون سقف، وطالب الفاعلين بابتكار الوسائل الخلاقة لتجسيد روح ما اقترحه خطاب 9 مارس ، وخطاب 29 يوليوز يكرر التجربة بآليتها وأفقها، والمطلوب أن يكون لكل الفاعلين الشجاعة للابتكار عوض الركون للمحافظة التي قيدت الأفق المفتوح الذي وضعه خطاب 9 مارس في متناول المغاربة ، ولا مجال للمجاملة لأن الخطاب يبحث عن الإبرة التي تخيط ثوب التنمية البهي داخل أشواك التشخيص والاقتراح
تفعيل ورش الجهوية المتقدمة
إن تفعيل ورش الجهوية بات حاجة وطنية ملحة من أجل تحقيق التنمية الشاملة، فالجهوية هي المدخل لتحقيق تنمية مستدامة، وهذا هو الخيار الذي يراهن عليه المغرب ، لكن ذلك يتطلب إرادة حقيقية وانخراط الجميع في انجاح هذا الورش .
وجلالة الملك الذي بدا متفائلا ،في خطاب 20 غشت 2019 ، بكسب رهانات المرحلة المقبلة، يراهن على هذا الورش لتحقيق التنمية المستدامة . يقول جلالته في خطاب ثورة الملك والشعب « ..إننا نعتبر أن التطبيق الجيد والكامل للجهوية المتقدمة، ولميثاق اللاتمركز الاداري، من أنجع الآليات التي ستمكن من الرفع من الاستثمار الترابي المنتج، ومن الدفع بالعدالة الاجتماعية .»
غير أنه بالرغم من النصوص القانونية التي راكمها المغرب بخصوص ورش الجهوية ، فإن الأمور لا تسير كما كان مسطرا لها ، يقول جلالة الملك « إلا أن الملاحظ رغم الجهود المبذولة ، والنصوص القانونية المعتمدة ، ان العديد من الملفات ، ما تزال تعالج بالادارات المركزية بالرباط ، مع ما يترتب عن ذلك من بطء وتأخر في انجاز المشاريع ، وأحيانا التخلي عنها .
وفي هذا الاطار أدعو الحكومة لاعطاء الاسبقية لمعالجة هذا الموضوع، والانكباب على تصحيح الاختلالات الادارية ، وايجاد الكفاءات المؤهلة، على المستوى الجهوي والمحلي ، لرفع تحديات المرحلة الجديدة .»
لم يعد أمام قطار الجهوية سوى الانطلاق بشكل سليم، بعدما تم ترصيص سكته بكامل المراسيم التطبيقية، كان آخرها ميثاق اللاتمركز الاداري الذي يتطلب، اليوم اكثر من أي وقت مضى، أطرا قادرة على اتخاذ القرار في المكان عينه ، للقطع مع سياسة « وسير لرباط « كي توافق الإدارة المركزية على إنجاز مشاريع تنموية ، التي تتأخر دائما بمختلف مناطق المغرب جراء سيادة البيروقراطية، فما زالت الإدارة المركزية تهيمن على الكثير من المجالات المفروض تفويتها للجهات بحكم القانون .

الكاتب : صابرين المساوي - بتاريخ : 25/10/2022