الانتخاب والديمقراطية    

مصطفى خولال 

يفيد مفهوم (( انتخاب )) معاني شتى تجمع كلها على دلالة الاقتراع، أي الاختيار والترجيح والتعيين الناتج عن تجميع إرادات فردية يطبعها التعدد في إرادة واحدة تترجم رغبة مشتركة لتلك الإرادات الفردية. ويبقى معنى ((الترجيح)) هو الغالب في عملية الانتخاب تلك. ذلك أنه يستحيل أن يتم الإجماع في كل عملية اقتراع. وأمام هذه الاستحالة يتم اللجوء إلى ترجيح ما يسمى ((أغلبية)) يتعين على ما يقابلها من ((أقلية)) الخضوع لها، أي لإرادتها. .
لا نعرف شيئا ذا بال عن أول انتخابات تم تنظيمها في أقدم حضارات كوكب الأرض، فنحن لا نتوفر في ما يخص حواضر ((العصور القديمة)) سوى على إشارات ليست بالوضوح الكافي كي تجعلنا نقر بأن الاقتراع كنهج لاختيار من يمثلون العموم من «الشعب» تم ابتداعه في هذه الحضارة أو تلك. لكننا في المقابل نعرف أن البشرية وصلت إلى أن هناك بديلا للاحتراب وتعويضا للاقتتال يصلح أن يكون حلا للصراع حول رجحان المصالح وتوزيع الثروة العمومية وتصريفها في تحصيل المنافع التي تتطلبها حياة البشر، ودفع النوائب التي تلحق الضرر بوجودهم.
إننا لو سألنا شرقيا لقال إنهم السومريون أو البابليون، ولو سألنا أمريكيا من أمريكا الجنوبية لقال إنهم مواطنو حضارة المايا، أما الغربيون فإنهم سيؤكدون أنه لا اقتراع كان قبل أن تنشأ حضارة اليونانيين القدامى، ولن يقولوا إن الاقتراع كان حقا لا يملكه سوى من يعتبر مواطنا من أبناء أثينا في المجتمع اليوناني الأقدم، كما لن يذكروا وضع العبيد، ولو رحنا إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد أنى كان المربي الأول للصينيين وفيلسوفهم الأكبر كونفوشيوس، وهو من كان له باع كبير في تربية المجتمع الصيني، فلن تجد في فكره مبدأ يقر بالاقتراع لاختيار حكام الشعب. أما فلسفة (( بوذية زاين)) اليابانية فلا تعرف شيئا يقرب من فكرة الاقتراع، وبعد هاتين الحضارتين وقبلهما وفي كل الديانات بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلام تبقى فكرة الاقتراع، الذي تقول به الديمقراطية، شأنا غريبا بالرغم من محاولة فقهائها جميعا النبش في النصوص المقدسة عن تطبيقات سياسية ما، لهذه النصوص. صحيح أنه في المسيحية يجري انتخاب المسؤولين الكنائسيين، غير أن ذلك يتم في دائرة محدودة لا تتجاوز كبار الناخبين من رجال الكنيسة.
وإذا كانت أثينا هي الرحم الأول للنظام الديمقراطي، فإن الانتخاب فيها لم يمارس في اللحظات الأولى التي طرح فيها السؤال المتعلق بالكيفية التي يتعين بها اختيار الحكام.
وإذا كان مفهوم الانتخاب، فكرا وممارسة، قد استقر أخيرا في القرن التاسع عشر، فإن هذا يعني أننا ما زلنا في البدايات. وهي بدايات اعترضتها وتعترضها عوائق في البلدان التي لم تنشأ فيها الديمقراطية ومنها بلدان ما كان يسمى» العالم الثالث «. وتتلخص هاته العوائق في مشكلتين كبيرتين هما بمثابة آفتين حقيقيتين، آفة إمكانية إفساد الانتخاب عن طريق القوة الإدارية التي تمتلكها السلطة النافذة..ثم آفة إمكانية ممارسة مرشحين أثرياء لشراء أصوات الناخبين. والمغرب واجه ويواجه منذ اختياره النهج الانتخابي، أي منذ اختياره ((الديمقراطية)) كمنهج للحكامة، المعضلتين معا. ففي عهد سابق وصل الفساد درجة لم تعد تحتمل جعلت الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني يتعهد شخصيا وفي خطاب رسمي أمام البرلمانيين بأنه يضمن هذه المرة نزاهة الاقتراع. كان تعهده بمثابة رسالة قوية إلى ثلاثة أنماط من المسؤولين، الإداريين أولا، والمرشحين ثانيا، والناخبين ثالثا. غير أنه لا هؤلاء ولا أولئك سمعوا دعوته. لقد أصموا آذانهم وأبقوا الحال على حالها من الإفساد الإداري والفساد المالي. وإذا كان من الإنصاف القول إنه في عهد الملك محمد السادس قد خفتت حدة التدخل الإداري للسلطة النافذة، أو بتعبير آخر أن الفساد الإداري لعملية الاقتراع قد توارى بصورة أو بأخرى، نقول توارى ولم يختف نهائيا، فإن الفساد المالي المتعلق بشراء الأصوات بالمال النقدي أو بالمال العيني (حالة منح الأكباش من قبل ((السيدينيين))، بتعبير البلاغي محمد العمري، ما زال سلوكا جاريا يشهد على ردة قوية.
والحق أن «ديمقراطية» تقوم على الفساد المالي بممارسة شراء الأصوات، نقدا أو عينا، ينبغي أن نشتق لها اسما آخر غير اسمها الحالي. فالديمقراطية يلتصق بجوهرها مضمون المواطنة ومعنى حرية الاختيار وقيم نقاوة الضمير وخلقية الوفاء للمصلحة العامة. وكلها تصبح لاغية ملغية في سيرورة الانتخاب القائم على شراء أصوات الناخبين.

الكاتب : مصطفى خولال  - بتاريخ : 17/08/2021