البيزا والمسامير، آخر ما بقي من باريس!

أحمد المديني

«خرقت» أمس الثلاثاء القانون المفروض على ساكنة باريس بأن لا تتجاوز حركتهم مسافة كيلومتر عن سكناهم، وفي صبيحة صحو استثنائية زاغت بي قدماي، مشيت كالمسرنم لألفاني وصلت إلى شارع مونبرناس بالتقاطع مع شارع رسباي.ياه، انتقلت إلى الدائرة السادسة، بينما أقيم في السابعة. لم جئت هنا؟ لا وعيي قادني، فأنا كل صبيحة اثنين لا بد أزورها، بلهف وصلت إليها، أقصد أرتادها. باب مكتبة Tschannمغلق، هنا زبدة الثقافة والأدب في فرنسا، الستارة الحديدية مُسدلة، وعلى غير العادة شبه فضلات على المدخل من إهمال. هل بسبب حِداد؟ استبعدت الإفلاس، وقد كثر. بلعت غصتي، وانحدرت في le rue de Reineغرضي الوصول إلى مكتبة L’écume des pages بجوار مقهى Le Flore في سان جرمان،غاص قلبي قبل الوصول، واجهتها العريضة من الجهتين سوداء بالحاجب الحديدي. ما العمل وقد راهنت على أن أكون سباقا لاقتناء كتاب رجيسدوبري الأخير؟ لو واصلت البحث سأغامر بالبعد عن سكني، الذعيرة تصل إلى 136 أورو، وقد بعدت الآن بثلاثة كيلومترات، وأين أجد مكتبة في باريس وهي تحتضر منذ سنوات، الحي اللاتيني صار معرضا لباعة السراويل والتنورات وأكلات الماكدونالد المصنعة، لم يبق لي إلا مخزن الكتاب الكبير (Gibert) بينما أنا عَشّاقٌ للمكتبات الصغيرة، تشم فيها رائحة القرطاس، وهنا يحاورك البائع كأنك مع مونتسكيو. شارع سان ميشال، وغُلقت هي أبواب جيبر بطوابقها الأربع. لا بأس، عبرت إلى الأزقة الخلفية بين جامعة السوربون وla Rue Sufflot حيث نهلت من مكتباتها في القسم الثاني من حياتي طالبا باحثا وأستاذا، آملا أن أجد واحدة من مكتباتها التي لم يبلعها رأس المال المتوحش قائمة ومفتوحة، قفر، والأزقة قفر. تجاوزت الظهيرة أمشي كأني في متاهة، ماذا حدث للدنيا، أين أنا، هل هذه باريس؟ لا بد ثمة خطأ في رأسي، ليس اليوم عطلة، ماذا إذن؟ بالصدفة مر عابر كأنه نزل من كوكب آخر، بادرت أسأله، فنظر إليّ باستغراب وسألني للتو، من أي كوكب أنت؟ ألا تعرف أننا في زمن الحجر بسبب الوباء؟ أن كل ما ليس ضروريا مغلق إلى أجل معلق، ألا تسمع الأخبار؟! ألم تر وزيرنا الأول المبجل يخطب في التلفزيون متبجِّحا أنه يريد حماية حياة الفرنسيين من الكوفيد اللعين، (كذا) لذلك يترك محلات الأكل والعلف الكبرى وحدها تعمل، هي وتوصيلات البيزا وورشات المسامير؟! سألت الرجل العابر الذي واصل ينظر إلي مشدوهاً، والمكتبات يا سيدي حتى هي، أظن لا تؤذي أحدا؟ فأجابني بالاستغراب ذاته، وكأنه الرئيس ماكرون أو وزيره الأول كاستيك، وهل الكتب تؤكل يا مغفل؟ هل هي منتوج للضرورة القصوى؟ produit de première nécessité استسلمت وقلت، أوافقك أظن، بل يقينا البيزا والمسامير أولى. عقّب للتو ببداهة، يا لك من ساذج، أم أنك تتباله، طبعا، أولى مني ومنك، من باريس كلها. في هذه اللحظة بالذات تخيلت الرئيس فرنسوا ميتران يمضي من سكنه في rue de Bièvre جنزبي شارع سان جرمان ويقصد بخطوة واثقة مكتبة La Hune (قبل أن تبتلعها حقائب اليد الجلدية ماركة فويتون!) كما شاهدته يفعل كل أسبوع ليقتني كتبه شخصيا، وجاورته في المكتبة كتفا بكتف، وسيجدها مغلقة، أثراً بعد عين، وسيسأل، ولن يصدق الجواب، سيصاب بالذهول، ومن الأزل الذي هو فيه الآن سيبعث باستقالته من رئاسة الجمهورية، لن يتحمل ولن يشرفه أن يكون رئيسا لبلاد الكتاب فيها صار يُعد من قبيل الكماليات، أي نعم غير ضروري..أي يمكن الاستغناء عنه. على خطوات لمحت شرطيين قادمين باتجاهي، فتراجعت القهقرى أحاول الالتحاق برئيسي، نعم رئيسي، أعيدها بشجن ويقين، وإذ خيل إليّ أنه بدوره يهرب من الشرطيين ليتجنب أداء الذعيرة، أو حتى لا يصدم مرتين. أجل، لقد بعدنا جدا، جدا، أنا عن سكني، وهو ـ إذ يشيح نظره عن ما حوله، ـمنذ 1996عن هذا العالم البئيس وباريس الثكلى .. بغير كتاب!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 19/11/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *