التفكير المغربي حول كورونا: رؤية لاستشراف المستقبل
أحمد المديني
فرض كوفيد 19 حالته موضوع تفكير في العالم أجمع، ومنه العربي، وقُدِّمت عنه تأملات ودعوات لإعادة النظر في أوضاعنا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، بوصفها الأطرَ الكبرى التي تحيط بمجال الوباء وفيها توجد جذور الأزمات ويمكن أن يترعرع العلاج. في هذا الأفق هبّ مفكرون وأدباء مغاربة إلى بسط أرضية للنقاش، وإلى قراءة لواقع العالم وحالة بلدهم المغرب في رؤية متفاعلة ومتكاملة، في ضوء تفشّي الوباء ووضعوا أبحاثا ضمن كتاب مزدوج بالعربية والفرنسية صدر حديثا بعنوان:» العالم ما بعد جائحة كورونا ـ رؤى مستقبلية»(في 436 ص، المركز الثقافي للكتاب) بمشاركة خمسة عشر دارسا وكاتبا، «لكل واحد منهم رسوخ في اختصاصه» بإشراف الأستاذ علي أومليل، ينظر إلى الوباء في تقديمه مُعَوْلَماً ضمن عولمة قائمة، وتُطرح معه الجائحة في شكل (مقايضات زائفة)يعددها التقديم بين الحرية الشخصية، وحق الفرد في ملكية جسده، وحق الآخرين في السلامة؛ وبين الحريات الديموقراطية وبين الأمن والاستقرار؛ وكذلك بين إطلاق عجلة الاقتصاد وحفظ حياة الناس. فيما يرى الرهان الأكبر لما بعد الجائحة في خضوع الديموقراطية لامتحان استعادة هويتها الحقيقة بضمان الأمن والحريات، ذلك أن غرض الكتاب هو سبر أبعاد الجائحة، واستشراف أبعاد ما سيليها عالميا وفي ارتباطها المباشر بالمغرب وأوضاعه.
تتميز الدراسات المقترحة باجتهادها وتنوُّع اختصاصها، لن نلم، من أسف، إلا ببعضها، أطرفها، كما رآها الشاعر والروائي محمد الأشعري، من منظور ما سماه (المتخيل الوبائي) يظهر فيه الوباء وقد تخطت واقعيته الخيال، و» إحلال الدهشة محلّ الفضول، دهشة العصافير التي تعود إلى شوارع باريس» وباختصار» إحلال الخيال محل الواقع» بسبب إكراهات الوباء القطعية،» سيتولى الخيال تدبير الجائحة» أي الاستجابة للحاجات الممنوعة من سفر ورفاه وغرام، وبتعبيره:» سنتخيل العالم الذي سينبثق من الوباء، ليكون طفلَ الوباء، أو متخيّله، أو صِنوه، أو نقيضَه».. وبالنظر في الأخير إلى أن مستقبلنا لا يوجد في الآلات القديمة بل في ابتكار أخرى، بل وإنسانٍ آخر. بينما يذهب الباحث السياسي عالم الاجتماع عبد الله ساعف لمقاربة الوضعية الوبائية من ناحية واقع المنطقة المغاربية، ماذا حدث لها في هذا السياق، وكيف توجهاتها في المستقبل، ومن ثم كيف يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة تاريخية لتنشيط دينامية لهذه الأقطار وتركيز دلالتها في الساحة الدولية، لو توفر التضامن لتمّ تدبيرُها بشكل أفضل، إذ بعد ثلاثين عاما لا يبرَح التأزّمُ مكانَه، وها الوباء يَشُلّ المعارضةَ وطموحَ التغيير.
لا بأس لو استدركنا فعرّفنا الجائحة، جاء في لسان العرب هي: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة» كذلك» المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كله»؛ هو المدخل المطلوب لدراسة الباحث الاقتصادي نور الدين العوفي رسم خريطة سوسيو اقتصادية وإيديولوجية لعالم ما قبل الكوفيد، وأبرز اضطلاعَ الدولة المغربية بدورها للتصدي لعقابيل الجائحة وضمان «اقتصاد البقاء»، الإبقاء على الأنشطة الاقتصادية الأساس لحياة الناس، بما أظهر اختيارها قويا وفعّالا قوامه (حفظُ النفس، لا حفظُ الاقتصادي). لذا فالدولة، عند العوفي، هي المنقذ من الإفلاس، وستعلمنا الجائحة زيادة على استعادة دورها في استثمارها في ضرورات التنمية (تعليم وصحة وشغل وسكن وعيش كريم،)، أولوية الاستثمار العمومي بوصفه خيارا وطنيا استراتيجيا.
فيما يستشعر الباحث والأديب محمد المعزوز حالة اللاّيقين بوصفها مُعطى أساسا ناجماً عن ما بعد جائحة كورونا، إذ تبين للنخبة والعامة معا أن العالم معلقٌ بخيط واه، وكيف زعزع ميكروب لا مرئيٌّ ثقة الإنسان في ما حوله وأسقط كل يقين، جرّاء شلل الحياة وطغيان الفزع وتفشّي الموت الغادر وكذا تعليق الحريات الفردية، انهارت معها يقينيات كانت راسخة( طبيا، سياسيا، وقيميا). ومن ثم بدأ التوجه نحو سردية جديدة للإنسان» موضوعها إعادة بناء الذات الفردية التي دُمِّر كيانُها الداخلي خلال مسار سابق ومعقّد من الإحباطات والجروح التي خلفتها ثقتها في نوع من الدولة المتماهية مع الليبرالية المتوحشة». على نحو قريب يرسم الباحث الجامعي عبد الإله بلقزيز ملامح المشهد الاقتصادي والميكانيزمات المتحكمة فيه قبل الجائحة ليفكر في ما يستقبل من الأيام، ذلك أن رهان المشاركين في هذا العمل الأكاديمي هو محاولة بلورة رؤية استشرافية للمستقبل تتخطّى الظروف القسرية للوباء الحالي وتخترق الأنسجة والعوائقَ المسيِّجةَ له وللإنسان، المواطن، الواقع في قبضتها بِيَد سلطات وقوى اقتصادية وسياسية هيمنية بما يقيّد حريته ومطامحه. أما طموح البحث فهو تقديم بديل/ بدائل لوضعية الانسداد على الصعيدين الدولي والوطني بتوفير الحقوق الاجتماعية، والضمانات القانونية ضد أيّ انتهاك، واستنبات قيم السلام والتعاون والتضامن بين الدول، والمطالبة بهندسة جديدة للنظام الدولي، والمغرب بحكم موقعه الجيو استراتيجي واقتصاده وسياسته جزء من المحيط العالمي ومتأثر متفاعل بكل جديد يطرأ فيه مستقبلا خصوصا في باب الإصلاح.
ولن يفوت قارئ أطروحات وتحليلات المفكرين المغاربة في هذا الكتاب الرائد إلا أن يسجل الطموح الكبير بل الامتداد النظري الشاسع هو والتحليل الجامع لكل مكونات العالم في الأصعدة كافة وأطراف النزاع والإيديولوجيات المتصارعة فيه، والتي يرون بعد أن قاموا ،كل من زاوية، بتفكيكها ومحاكمتها، أحيانا بصك اتهام، أن لا مناص من تطليقها إلى الأبد، والجائحة التي ألمّت بالبشرية اليوم ليست إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، يهتبلون فرصتها الكارثية لطرح البدائل المبشرة بمستقبل أفضل لها.
ويلفت النظر البحث المميز للأستاذة أسماء لمرابط، بلورت فيه رؤية إنسانوية خالصة، كان هذا التأليف سيأتي ناقصا حقا بدونها. فبعد إلحاح المتدخلين على الأسباب والمراجع المادية وتأثيراتها في اختلال القيم وغياب العدالة والمساواة، وشروحهم الضافية لأوضاع الاقتصاد والاختلالات الهيكلية في عالم اليوم باعتبارها الجذور لكوارث الحاضر ومنها الكوفيد الحالي؛ ذهبت الأستاذة لمرابط، إلى الحفر في البعد الإنساني، في المكوّن الأخلاقي ـ إيتيكي، رأت فيه نقطة تمفصل بين مرحلتين في تاريخ البشرية، و»لحظة قطيعة تاريخية رمزية لتشكّل جديد للعالم» واستغربت من المتشوقين للعودة إلى عالم طبيعي، بينما هو غارق في التناقضات، موصوم بالعيوب. تحفزها نزعتها الإنسانوية إلى الدفع بأن ما فعله الإنسان هو تخريب الأرض وكل ما هو إنساني؛ في أن انعدام اليقين الذي بتنا نسبح فيه ناجم عن اختلال نظام سياسي واقتصادي لم يحافظ على الإنساني في جوهر حضارتنا، بالتالي لا شيء يمكن عمله بدون إصلاح شامل. والمغرب الذي يعيش في قلب هذه الأزمة بمسبباتها السوسيو اقتصادية مدعوّ، كسائر البلدان العربية، إلى التركيز على العنصر الإنساني، التعليم حتما في قلبه.
هل دخلنا عالم المجهول؟ هل عالم ما بعد كورونا سيكون عالم يقظة الضمائر؟ سؤالان جوهريان سعى عدد من المفكرين المغاربة إلى وضعهما بصيغ تحليلات وإشكاليات بغية استشراف المستقبل، قدموا اقتراحات فكرية ونقدية ونضالية أيضا ولم يجازفوا بأجوبة دوغماتية، وهذا جيد، أجود منه أن نلمس حضور الفكر العربي معبراً عن قلق اللحظة الإنسانية انطلاقا من واقع المجتمعات العربية، وانعكاس الوباء عليها لا تابعا أو مقلدا.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 15/09/2021