الجامعة الفرنسيةُ ودرسُ الاستشراق، يُوَدِّعان رائدَهما أندري ميكيل

أحمد المديني

 

في الأيام الأخيرة لغروب العام الماضي ودعّ الوسط الأكاديمي والأدبي في فرنسي علما من كبار أفذاذه، والأستاذ الكبير آخر وأبرز المختصين في الدراسات الاستشراقية في فرنسا والعالم الغربي عامة. أجل، فحين نذكر أندري ميكيل(1922ـ2022) الذي رحل الثلاثاء الماضي، نتوقف عند لائحة مرموقة تضم عمالقة الاستشراق وأساتذته بلاشير(ت 1973) وشارل بيللا (1992) ومجايليه جاك بيرك(ت1995) ومكسيم رودنسون(ت 2004)، ولا يمكن إغفال جمال الدين بن الشيخ(ت 2005) ومحمد أركون(2010)، وهو واسطة العقد. تتلمذ على أسلافه الكبار، ونهل من مصادر الثقافة العربية الإسلامية في عديد ينابيعها وعيونها ومضانّها المختلفة، ذهب إلى الأصول وتنقّل في الأمصار دأبَ أهلِ العلم، بين المغرب وسوريا ومصر وإفريقيا، ومكّنه العمل الدبلوماسي في مساره الأول من التعرف على البلدان وذخيرة الخزائن. كان مصيره كما أخبرني وسمعت عنه مرتبطا بالعربية، منذ تخرج مُبرَّزاً من المدرسة العليا للأساتذة في باريس التي تُخرِّج صفوة الدارسين، منهم سارتر وسنغور وعبد الله العروي، قصد دمشق لتتقوّى فيها عربيته، مثلما قضى فترة في القاهرة عاش فيها تجربة مريرة دوّنها في قصة بديعة وجارحة» وجبة المساء»(ترجمة رشا صالح).
تنقل البروفيسور ميكيل في أسلاك التعليم بين ليسيات كبرى وجامعات أبرزها إكس ان بروفانس، والسوربون، ليصبح بعديد تآليفه ونبوغه في الدراسات العربية من اختصاصات متنوعة سيّدَ الدرس العربي في الجامعة الفرنسية، خاصة بعد رحيل جاك بيرك، فأُسند إليه كرسي الأدب واللغة العربية في الكوليج دو فرانس أعلى مؤسسة أكاديمية (1976ـ1997) وبتزامُنٍ مع التدريس تقلّد أيضا منصبَ محافظ المكتبة الوطنية الشهيرة لباريس(ريشيليو) قبل أن تبنى في هيئتها الجديدة وتصبح مكتبة فرنسوا متيران، إليه يرجع فضل إعداد ملفها وخطط تجديد بل تثوير المكتبات الفرنسية. في هذه الفترة الخصبة قدّم أبرز أعماله في مقدَّمها بحثُه المؤسِّس الذي تميز به في درس الجغرافيا الإسلامية البشرية، كتابه» جغرافية دار الإسلام البشرية حتى منتصف القرن الحادي عشر»(1973) وكتب» الإسلام من الخليج إلى المحيطين»، و» اللغة والآداب العربية التقليدية» (1977)و» العرب من الرسالة[ النبوية] إلى التاريخ». عزّز هذه التآليف بترجمة عيون من التراث العربي، بتحقيق حسن ولغة وطلاوة كأنها كتبت من جديد، نذكر منها» كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ، و»كليلة ودمنة» لابن المقفع، وتوّج جهوده في هذا المضمار بترجمة ل» ألف ليلة وليلة» أنجزها بمعية أستاذي جمال الدين بن الشيخ، وهي موضوع السمنير الأسبوعي في الكوليج دو فرانس الذي كنا نتحلق ونسهم فيه نحن مساعدوه المتدكترون في مطلع الثمانينات.
الحق، منذ شغف أندري ميكل بثقافة العرب وعالمهم وهو يغرِف من كل بحر يتغذى منها وينميها فهو مستعرب موسوعي، صفة أنسب له وأليق به من المستشرق. فإذا كان قد اتجه إلى دراسة جغرافيا العالم العربي والإسلامي فإنه لم يعن به خريطة ولكن اجتماعياً وإنسانياً، وهو نهج استقل به وطوّر به الدراسات الاستشراقية ساعياٍ بواسطة مناهج حديثة، البنيوية منها، إلى استخلاص البنيات الذهنية للعالم والثقافة تحت النظر، متحرراً من القراءة الفيلولوجية وتأثيرات المقاصد الاستعمارية لسابقيه، ومراجعا بل منتقدا مواقفهم الموسومة بالاستعلاء. سعةُ معارفه وتنوّعُها دفعاه إلى دراسة أعلام وظواهر أدبية عربية، فزيادة على تيمة (العجيب والغريب) الثاوية في قلب(الليالي) ودرسُنا لها مع بن الشيخ، عني بفنّ المناظرة، يُطلب كتابُه:» مناظرات بغدادية». كذلك كتاباه الأشهر عن قيس بن الملوح، و» حكايتا عشق من المجنون[ مجنون ليلى] إلى تريستيان» يقارن بين أسطورة المجنون وأسطورة تريستان أوزوت. بل أقدم هو نفسه على نظم أشعار بالعربية وأصدرها مترجمة في عمل واحد. هذا كله، دون أن يَغفل عن الأدب العربي الحديث والمعاصر فاهتم بروائية نجيب محفوظ، وترجم منتخبات لشعر أحمد عبد المعطي حجازي وفسح المجال لشعره ولأدونيس في الكوليج، بفضله عُرفا. هكذا صاغ نموذجا فريداً للمستعرب الفرنسي دارساً للعربية، أستاذاً قديرا لها ولآدابها في جميع العصور وعاشقاً لها ومبدعا؛ هذا الأستاذ الذي تخرّج عليه عشراتُ الطلاب العرب مغرباً ومشرقاً وأشرف على أطاريحهم بعناية أب عطوف وبحرص وتوجيه ومودة رافقتهم طيلة سنوات البحث وبعده.
وإذا أردنا أن نجمل مفهومه وآراءه في مبحث الاستشراق وخطابه ونظرته للثقافة العربية فإني استناداً إلى قراءتي لأعماله وبناءً على حوار أجريته معه منذ سنوات لمنبر أجنبي أقول معه:
ـ ما هو الاستشراق، بحث أم خطاب؟ هما معا متداخلان، فلا استشراق بدون مستشرقين، وهؤلاء أنواع: من يشتغل حول الشرق، المستشار السياسي والمحاضر، ومن ينتج خطابا عن الشرق، والمرادُ بالشرق في الوعي الفرنسي الزمن الاستعماري للقرن التاسع عشر. لقد كان إذن خطاباً أو منجَزاً متعلقاً بالشرق والعالم العربي، أما اليوم فالحديث يجري عن عالم أوسع.
ــ عرف الاستشراق في تاريخه تفكيراً وتأويلات، منها آراءُ إدوار سعيد التي تحولت إلى موضوع سجال، وكان لمحمد أركون رأيٌ صارمٌ فيها بأن اعتبر ما جاء عند سعيد موقفا سجالياً لا تفكيرا أكاديمياً. يتخطى ميكيل الموقفين معا ويعتبر المشكل متجاوزاً، الأهم عنده السائر والمتحرك، والممارسة عوض التنظير، أي إيلاء الاهتمام للشباب المهتمين بالعالم العربي الذين يذهبون إلى بلدانه لمعرفة الميدان قبل إنجاز البحث، لذا يعتبر نفسه مستعرباً. كلُّ شيء يتغير ومنه النظرة إلى كتاب إ. سعيد ستصبح متجاوزة، والخطاب الاستشراقي لم يعد حصراً على المختصين، كما أن النظرة العجائبية الملصقة به تنحسر وتتراجع.
ـ الخطاب الاستشراقي وضعَه مؤرخون وهؤلاء ينتمون إلى تاريخ، إلى دول ارتبطت بالبلدان العربية الإسلامية بمسلسل الاستعمار. وهناك مستشرقون(بلاشير وماسينيون) ذهبوا إلى الشرق لفهم مجتمعات قبل عكوفهم على دراستها، فلا نشك في مقاصدهم ولو لم نتفق مع نتائجهم . هناك آخرون، ميكيل واحد منهم، يرفضون أن يكون خطابهم ينتمي لهيمنة ما حتى وهو مشبَع بذهنية مجتمعه، أي أصله الغربي، ذلك أنه لا ينفصل عن جذوره وباق فيها.
ـ الاستشراق مات، انتهى. المطلوب دراسة العرب بوصفهم ممثلين لعهد ثقافي كما يُدرس الألمان والإيطاليون والإيبيريون بوصفهم يمثلون عهودا ثقافية محددة، أي النظر إلى العالم العربي بكيفية منفتحة تكسر الأطر والقوالب المنمذجة والمسبقة، عرقية، دينية ومثلها.
ـ بدأ ميكيل بدراسة الشعر الجاهلي وصولا إلى العباسي، وسعى إلى فهم هياكله وأصالته الخاصة، وكيف يصنع، المختلفة تماما عن الشعر الغربي، فأحبه واحترمه؟ ثم انتقل إلى الشعر الحديث، يجده عصريا بمعنى الكلمة، والعرب شركاء متساوين مع غيرهم في الإبداع الشعري.
وبعد، فقد خسرت الثقافة العربية وآدابها أستاذا جليلا، عاشقا متيّماً بها، منقبا عن دررها ومبجلا أصولها، فمطورا لمناهج دراستها، بها ثقافتنا وأدبنا العربي ونحن طلابه له مدينون.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 04/01/2023