الجيل الجديد للتنمية الترابية: برنامج استعجالي لتدارك اختلالات العمل الحكومي

نورالدين زوبدي
أطلقت وزارة الداخلية مشاورات موسعة مع الفاعلين المحليين، في إطار الإعداد للجيل الجديد من برامج التنمية الترابية. وهو ورش وطني طموح يتقاطع مع التوجيهات الملكية السامية، خاصة تلك التي وردت في خطاب عيد العرش، والذي شكّل رجة قوية في دواليب الدولة، وأعاد ترتيب الأولويات، داعيًا إلى بناء مغرب أكثر توازنًا وعدلًا.
إن فشل التنمية المحلية لا يعود دائمًا إلى سوء التسيير أو ضعف الأداء السياسي، بل تتداخل فيه عوامل بنيوية عميقة، على رأسها ضعف الميزانيات، وندرة الموارد المالية والبشرية، وانعدام التكافؤ في توزيع الإمكانيات بين المجالات. وبالتالي، لا يمكن تحميل الفاعل المحلي وحده مسؤولية نتائج لم تتح له الأدوات الكفيلة بتحقيقها.
وإذا أردنا بالفعل بلوغ الأهداف الكبرى التي سطرتها الدولة، فإن المدخل الحقيقي لذلك يمر عبر إعادة النظر في توزيع الموارد المالية بين الجماعات الترابية بشكل منصف، يأخذ بعين الاعتبار حجم الخصاص، لا منطق التقسيمات الإدارية فقط. كما أن تحقيق العدالة المجالية يستوجب تصحيح طريقة تدخل القطاعات الحكومية، التي غالبًا ما تعتمد الغطاء السياسي للوزير لتنزيل برامجها، بمعزل عن المقاربة التشاركية والخصوصيات الترابية. ولا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي دون مواجهة نفوذ اللوبيات التي تغلغلت في الإدارة، وجعلت من مواقعها وسيلة لخدمة مصالحها الخاصة على حساب التنمية العامة.
لكن قبل الحديث عن حلول للفوارق المجالية، لا بد أولًا من تشخيص عميق وصريح للأسباب الحقيقية التي أدت إلى نشأتها، وتحديد المسؤولين عنها بدقة. فلا يُعقل أن نُوكل مهمة تقليص هذه الفوارق أو القضاء عليها إلى من كانوا، بشكل مباشر أو غير مباشر، جزءًا من المشكلة، أو ساهموا في تعميقها من خلال اختيارات أو ممارسات غير منصفة.
وفي هذا الإطار، جاءت المذكرة الوزارية الصادرة عن وزير الداخلية-المعتمدة على التوجيهات الملكية في خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز 2025-لتُطلق ورش «الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المندمجة»، وتدعو الولاة والعمال إلى الشروع الفوري في إعداد هذه البرامج وفق مقاربة تشاركية وتشاركية، تستهدف الخصوصيات المحلية ومقتضيات الجهوية المتقدمة، مع التركيز على أربع ركائز محورية: التشغيل، الخدمات الاجتماعية (التعليم والصحة)، التدبير المستدام للموارد المائية، والتأهيل الترابي المندمج ليتلاءم مع الأوراش الوطنية الكبرى . كما شدّدت المذكرة على الانخراط الفعلي للمنتخبين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وتساءلت عن تفادي أي توظيف انتخابوي ضيق يؤثر على مصداقية الوسيلة التنموية .
وحده التخطيط التشاركي، القائم على العدالة المجالية، والمتحرر من منطق الولاءات السياسية والحسابات الانتخابية الضيقة، قادر على أن يخرج بلادنا من دائرة إعادة إنتاج التفاوتات. فالتنمية لا تُبنى بقرارات فوقية أو برمجيات تقنية جاهزة، بل تُصاغ من الميدان، بمشاركة الجميع، لبناء مناطق لا تشعر بالإقصاء ولا بالتهميش، بل بالانتماء والعدالة والكرامة.
وفي هذا الإطار، يشكّل برنامج الجيل الجديد من التنمية الترابية فرصة تاريخية لا ينبغي إضاعتها في درب إصلاح الأعطاب التنموية المتراكمة، كما يُعد درسًا بليغًا في مواجهة كل أشكال التغوّل الذي لا يستحضر المصلحة الوطنية ولا مسؤولية الحفاظ على مغرب موحد ومتضامن. فالأغلبيات السياسية تظل دائمًا ظرفية، لكن السياسات العمومية يجب أن تظل راسخة في خدمتها للمصالح العليا للبلاد، بعيدة عن أي نزعة هيمنية أو توظيف سياسي ضيق.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن ما آلت إليه المذكرة الوزارية، وما أثارته من ردود فعل متباينة، لم يكن معزولًا عن واقع سياسي طبعته في الآونة الأخيرة ممارسات تغوّل حكومي واضح، أسهمت بشكل مباشر في تكريس الفوارق والتفاوتات المجالية. فقد انخرطت بعض الأطراف السياسية مبكرًا في منطق الحملات الانتخابية السابقة لأوانها، وجعلت من الصراع على تصدر المشهد في أفق 2026 هدفًا يتقدم على أولويات التنمية والمصلحة العامة، وكأن تدبير الشأن العام محصور فيها دون غيرها.
لقد أدى غياب الانسجام داخل مكونات الحكومة، وما صاحب ذلك من صراعات سياسية للظفر بثقة الناخبين، إلى جعل مشاريع الدولة ومبادراتها التنموية أداة للتنافس الحزبي، بدل أن تكون رافعة جماعية لخدمة الوطن. فأصبح كل قطاع يتعامل مع حاجيات المواطنين بمنطق الربح السياسي، لا من منطلق المصلحة العامة. ونتيجة لهذا الانزلاق، نشأت اختلالات في تدبير التنمية، واتسعت رقعة الفوارق، حيث صار كل حزب يعمل على تعزيز نفوذه في الجهات أو الجماعات التي يسيطر عليها انتخابيًا، عوض أن يكون الهدف هو تحقيق التوازن والعدالة بين مختلف المناطق.
هذه التأملات لا تُطرح للتقليل من أهمية مسار إعداد هذا البرنامج الجديد، بل لعلها تساهم في تدارك بعض الهفوات التي قد تقع فيها الجهات المكلفة بالإشراف والإعداد، سواء على مستوى الرؤية أو المنهجية أو إشراك الفاعلين. كما يمكن أن تشكل أجوبة موضوعية على الانتقادات التي وُجّهت لمذكرة وزير الداخلية، خاصة تلك التي اعتبرتها خروجًا عن المألوف، أو محاولة لإقصاء المنتخبين، ومعاقبتهم جماعيًا على فشل لم يكونوا وحدهم مسؤولين عنه.
إن الخطاب الملكي كان واضحًا في الدعوة إلى تصحيح المسار، لكنه لم يدعُ إلى محاسبة جماعية أو إقصاء ممنهج للسياسيين، بل إلى تجديد أساليب العمل وتحقيق النجاعة والفعالية. ومن هذا المنطلق، فإن الخوف من «تسييس» البرنامج لا يجب أن يتحول إلى ذريعة لإبعاد المنتخبين عن المساهمة، بل العكس تمامًا: يجب أن يُشجع كل فاعل، حزبيًا كان أو مدنيًا، على تقديم مقترحات ذات مضمون تنموي حقيقي، مادامت تتماشى مع الأهداف الكبرى للورش وتخدم المصلحة العامة.
ولذلك، فالهدف ليس إبعاد الفاعل السياسي من مسار الإعداد أو التنفيذ، بل بالعكس، ينبغي إشراكه باعتباره أحد أعمدة التدبير المحلي، ولكن في إطار مسؤول وشفاف. أما ما يجب منعه بشكل صارم، فهو توظيف مشاريع هذا البرنامج التنموي في الحملات الانتخابية، أو تحويلها إلى أدوات للترويج السياسي والحزبي. لأن نجاح هذا الورش رهين بتحييده عن منطق الحسابات الظرفية، وجعله ملكًا لجميع المغاربة، بعيدًا عن أي استغلال انتخابي قد يفقده جوهره وصدقيته.
إن المطلوب اليوم هو الارتقاء بإعداد البرنامج التنموي إلى مستوى انتظارات المواطنين وتعليمات الملك، بعيدًا عن الحسابات الضيقة أو النظرات التقنية الباردة. فهذا البرنامج لا يجب أن يكون مجرد استجابة ظرفية، بل رؤية استراتيجية عميقة تهدف إلى التقليص الجذري للفوارق المجالية والاجتماعية، وتضمن للمواطن، في القرى كما في المدن، نفس الحقوق، ونفس فرص الشغل، ونفس الخدمات العمومية.
الكاتب : نورالدين زوبدي - بتاريخ : 26/08/2025