الديمقراطية والنقاش العمومي
مصطفى خلال
في العام 1990 وبعد فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزاءر رفضت السلطة التي كانت في الحكم وما تزال الى اليوم ، رفضت نتائج الاقتراع وذلك بمصادرة الديمقراطية ككل. وفي تونس قام الرءيس نفسه، في هذا العام ، 2021، وهو الذي أقسم على احترام الدستور، بحل البرلمان وإقالة رءيس الحكومة وسار في سبيل يحكم فيه لوحده عن طريق المراسيم الرئاسية . وفي موريتانيا تتغير قمم السلطة عن طريق أضحى معهودا، هو أبعد ما يكون عن رسوخ الديمقراطية. أما في ليبيا فالمسار الذي دشنته قوى أجنبية عن مغربنا الكبير في العام 2011 تحت ما سمي باطلا «ربيعا عربيا»، لم يعرف له مخرجا الى اليوم . وفي المغرب ، وباستثناء انتخابات العام 1963، فان كل الاستحقاقات عرفت اما تزويرا وفسادا، أو فسادا ماليا وحيادا سلبيا للسلطة يثيران الدهشة والاستغراب.
كل هذا ناتج عن عوامل موضوعية وأخرى ذاتية… غير انها نتاج أيضا لغياب ((النقاش العمومي))…
وكل هذا له أيضا عنوان كبير هو غياب الروح والفكر والقيم والأخلاق والتربية الديمقراطية. وهو ما يعني أن زمن دحر ما نسميه ‘’الانتقال الديمقراطي’‘ في كل البلدان المغاربية ما زال قائما بل طويلا. وهو ما يثلج صدر القوى الأجنبية عن الأمة المغربية بكافة شعوبها المغاربية.
وغياب التربية الديمقراطية يستتبع من بين ما يستتبع غياب المناقشة العمومية.
انه لا جدال في أن من بين أرقى مظاهر النظام الديمقراطي تنظيم ((النقاش العمومي)). في كل حين تحل استحقاقات ما، في بلد يتميز برسوخ الديمقراطية – مبادىء وقيما وممارسة ، يتابع المواطنون هذا النقاش الذي تتيحه الديمقراطية، فيلمس كل القضايا التي تشغل الناس . يدير هذا النقاش إعلاميون متمرسون يكونون على دراية بتلك القضايا. ويسهم فيه مثقفون من كل الاتجاهات ، كتاب ومفكرون وفلاسفة وسوسيولوجيون واقتصاديون ومختصون في التواصل من كل صنف. كما يسهم فيه ‹›نشطاء›› المجتمع المدني، ويقوده قبل هؤلاء وأولاءك رجال ونساء السياسة من كل الحساسيات الحزبية.
لا يحدث هذا الا بصور باهتة مملة ومكرورة وبدون إسهام مثقفين ولا مفكرين ولا كتاب في ما يمكن أن نسميه تجاوزا بال ((ديمقراطيات الناشئة)) وهي التي تشكل أغلبية بلدان العالم…
فالصورة الباهتة التي يوجد عليها ((النقاش العمومي)) في بلدان هذه الديمقراطيات تسهم هي الأخرى ، بالإضافة الى الفساد الصادم المؤثث لهذا الاستحقاق أو ذاك، في «هشاشة» الديمقراطية وبؤسها. وكلاهما، الفساد وغياب النقاش العمومي يلحقان ضررا كبيرا بالصورة التي ينبغي أن يكون عليها الانسان العادي، فبالأحرى الانسان الطامح الى أن يعيش طبقا لقواعد ديمقراطية ، تحكمه ب ((عدل))، وتوجد ((حلولا)) لمشاكل وجوده ، وتعبد طرقا لمواجهة التحديات الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والبيئية التي تواجهه.
نعم، يمكن العودة بجذر ((النقاش العمومي)) الى اثر الفلسفة اليونانية، وخاصة ما جرى بين أفلاطون وتلميذه أرسطو. فقد اهتم الفكر المحض (الفلسفة) منذ قديم، منذ عهد اليونان، بـ ((النقاش العمومي)). هكذا اعتبره أساسا من أسس الديمقراطية. فكلما كان هناك إسهام جماعي في المناقشة العمومية كانت هناك ديمقراطية. بل ان كتاب ((السياسة)) للفيلسوف الاغريقي أرسطو، لم يكن في بعض اجزاءه من تأليفه لوحده. فقد كان العمل الجماعي، قاعدة العمل في تحرير فصول الكتاب، اذ كانت الدراسة والتعليم يسيران في توازي مع البحث الفلسفي والعلمي. في هذا الكتاب يبرز أرسطو تصوره للدولة ونمط الحكم وتنظيم المجتمع الذي هو في فكره متعدد ومتنوع. وهو التعدد والتنوع الضروريان لحسن تفاعل (المدينة – الدولة). فهذه الأخيرة في فلسفة أفلاطون ((واحدة))، في حين هي عند أرسطو ((تعددية المواطنين)). فمن أجل أن تكون ((المدينة فاضلة أو سعيدة)) ينبغي أن يكون كل مواطن فيها ((حسنا أو سعيدا)). فـ ((المدينة)) ليست جسدا تراتبيا كما يراه أفلاطون، ((تراتبا)) له رأس هو ((الفيلسوف – الملك)) كما هو تصور أفلاطون، و((قلب)) يشكله ((الجند))، و((بطن)) يشكله ((العمال المنتجون))، بل هي عند أرسطو خليط يطبعه ((الاختلاف)).
وهكذا فان هذا الجذر الفلسفي لـ ((المناقشة العمومية)) هو الذي كان له الفضل على الدوام في إبراز – مثلا – الطابع الديماغوجي للتطرفين، تطرف اليمين وتطرف اليسار في الغرب، وتطرف الاتجاه الديني في السياسة كما هو الشأن في بلدان المغاربيين. وحدها ((المناقشة العمومية)) توضح للمواطنين أن التطرف هو (( التزام باللاالتزام)). فالمتطرف لا يلتزم بشيء لأنه بتوظيفه أسلوب دغدغة عواطف الجموع وحديثه داءما ليس على الممكن بل على المستحيل، لا يفعل سوى تحريك عواطف تلك الجموع. لذلك يبقى يقينا أنه لكي لا يستغفل المواطن نفسه بخطابات التطرف، يتعين عليه أن يمتلك القدرة على ((الكلام))، أن ((يتكلم))، أن يتبادل ((الرأي))، ويعني هذا ((تبادل الأفكار)) الذي تبقى له قيمة عظمى في البناء الديمقراطي، فيمارس المواطن حقه في ((الحكم)) على الأقوال والمواقف، فيبرهن بهذا المسلك على أنه مواطن يملك ((ملكة الحكم)). وهو ذا تصور أرسطو.
الكاتب : مصطفى خلال - بتاريخ : 05/10/2021