الرّواية الفلسطينية تُقاوِم مَرّتين: بالحِفاظ على الذاكرة والمكان
أحمد المديني
لا جرم مثّل الأدبُ أنصعَ التعبيرات وأقوى الأدوات التي تصدى بها الفلسطينيون للمحتل، وذلك على ثلاثة مستويات: نقض سرديته الزائفة؛ الحفاظ على الذاكرة الوطنية بتجميع مكوناتها وإعادة تشخيص علاماتها ورموزها مادية ورمزية وروحية. ثالثا، التعبير الأدبي الصِّرف للكاتب، فالأدب لسان ذات، أولاً. بحكم المصير المأساوي، لم يكن لهذا الأدب حريةُ تعدّدٍ في اختيار مواضيعه وترفُ القول المفتوح باختيارات، كالآداب في الأوطان القائمة. والوطن مكان قارٌّ تنهض فوقه بنايات القول وتتنفس شحنات العواطف وتصنع الأساليب على هواها.لا عجب أن تكون التيمة الأساس للأدب الفلسطيني وتستمر منذ النكبة(1948) إلى الزمن الحاضر هي الانشدادُ إلى جاذبية استعادة الأرض المغتصبة والتشبّث بهوية من داخلها.
من حيث إنه تعبير منسجم مع مصدره وظرفه وسياقه وتيمته ودواعيه، ابن واقع حقيقي، فالأدب دائما بنسب عنه وإن تذوَّت وتَخيّل، هو قول صادق بقدر ما تستطيع اللغة والأساليب نقلَ الصدق والحفاوة بمشاعره؛ من هنا ظُلِم هذا الأدب حين أُلصقت به صفاتٌ وخضع لمعاييرَ وتصنيفٍ لا ـ أدبي بناءً على مقاييس من خارج بيئته وظرفه، على غرار الإنتاجات في البيئات المستقرة ذات الدولة القائمة. حصل إجماع نقديّ عربي أنه أدب مقاومة وترسّم التصنيفُ مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وبروز تراكم كمّي وتميُّز نوعي لما يكتبه الفلسطينيون نساءً ورجالا، في داخل الأرض المحتلة والمنافي منبتُه ومضمونه وأغراضه وطنُهم المغتصب. إن نحن فرزنا الزوج(أدب/ مقاومة) وفكّكنا طرفيه نجده يُحيل إلى نوعين، إلى الأدب وهو فن، وإلى المقاومة وهي فعل، قضية. يُبنى الأدب على أغراض ويتضمّن قضايا وإن لا يُعرّف بها ولكن أولا بطرائقه الفنية، ثم يتبَع المضمون، حسب المدارس والتيارات. أمّا أن يقترن مباشرة بالغرض فإنه يُحبس لينظر إليه في حدوده، كقولنا (أدب السّجون). أي يهمش، وأسوأ من تصنيفه هامشيًّا بتلقّيه ودرسه بتعاطفٍ وبنوعٍ من الشفقة، انتفض ضدها محمود درويش فأطلق صرخته الجارحة:» أنقذونا من هذا الحب القاسي!» ودفعته يجدد في شعره أقوى وأسمى.
والآن، أقول إن الأدب الذي كتبه أبناء فلسطين في الداخل والخارج منذ النكبة هو أدب استثنائي، حاز على خصلتين أساسيتين كبريين للآداب المعترف بها الممثلة لوجدان وواقع الإنسان، هما: أنه وبالرغم من الأوضاع المعوِّقة التي ولد فيها واستمر ينتج بينها يندرج ضمن أنضج وأبدع التجارب الأدبية العربية شعرا ورواية وقصة قصيرة. لا أحب أحكام القيمة ولا أقوّم مدفوعًا بالحماس، لي ما يسند رأيي بأكثر من برهان. ثاني الخصلتين امتلاكه للخصوصية وامتلاؤه بها مادة ووعيًا وشعورًا. أعني بالخصوصية، ما يستطيع أدب ما أن يتشبع به ويعبر عنه بروح أمته وثقافتها ومخيالها، ويكون بذا مقنعًا بها، وفي الوقت مميّزًا قياسًا بغيره. هذا إضافة بحد ذاته. أستعير من الناقد فيصل دراج توصيفًا وجيها للأدب الفلسطيني بأنه أدب ملتزم بمعنيين: بالقضية، وبأدبية الأدب، أي تجديده من داخله.خير مثال اقرأه في روايات إلياس فركوح (1948ـ2020) « أرض اليمبوس»(2008) القدس فيها مكان ورمز، ثم اقرأه نصا حرا في قصص زياد خداش»أسباب رائعة للبكاء»(2015) وشيخة حليوي في» سيدات العتمة»(2015).
الخاصية بالأحرى المكوّن الثاني، يمثله الزوج(ذاكرة المكان). يمكن تفكيك الزوج واللعب به ليخضع لأكثر من فهم ومنهج تحليل. أقتصر في طرحه على مستويَيْ الوصف والشرح يكفيان لتجسيد الخصوصية، أعتمد متن الرواية وهو كبير ومتنوع حسب الأجيال وفيه عديد رؤى أشكالاً ومضامين، تنبني إجمالاً على محورَي: الذاكرة والمكان. نعرف أن الرواية سجلٌ مهم للتاريخ الفردي والاجتماعي والإنساني،عامة، إنه ضرورة جنسها الأدبي. أما الروائي الفلسطيني فقد جعل الرواية بأكملها أماكنَ وفضاءاتٍ وأحداثًا ومشاعرَ وأخيلة وبشرًا قبل كل شيء توجد وتعمل وتؤثر وتتناسخ وتحيا وتموت في أوضاعها المختلفة وبأفعالها وعلاقاتها ومعظم ما يشكّل كينونتها الفردية والموضوعية، يوظف كله لبناء الذاكرة الوطنية بإعادة تأسيسها وإحيائها في السرد الروائي. قلت، سابقًا، لنقض سردية المحو الإسرائيلية للتاريخ الفلسطيني بدءًا من أكذوبة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وامتدادًا لمسلسلات المسخ والاجتثاث، وأضيف لتجذير الفلسطيني بثقافته وهويته الأصلية فلا يذهب بها هذا العصف وقد طردت من التراب تبقى لا تنقطع عن تاريخها. تبدو هذه مفارقة، لكن مادة الكاتب الفلسطيني الخام تبعث باشتغال الذاكرة، بنكبة وطنه واستمرارها، يعي أن لا تاريخ بلا ذاكرة، فيسرد ما يؤكد الأطروحة. في روايته» « نهرٌ يستحمّ في البحيرة»(1997) يركز يحيى يخلف على وصف معاناة المنكوبين في المخيمات في وضع مأساوي، من بانوراما صيرورة تاريخ النكبة. كذلك عند ليانة بدر في روايتها» أرض السلحفاة»(2019) تجمع بين مسارين للفلسطيني بين المنفى والعودة(بعد اتفاقية أوسلو) أحاسيسه وبصره الحنينيّ لما فات والرّاصد لما وجد فوق أرضه.
إن الذاكرة محفلٌ والمكان عمرانُها ولسانُها؛ إنه تاريخها وأيقونتها، اسمُها الآخر. ذاكرة الروائي الفلسطيني وسروده وحبكاته تشتغل بأداة ودينامية المكان ذهابًا وإيّابًا إلى الإنسان. مكان يتعدد ويتنوع. هو حيِّزٌ له شخصية مستقلة. ويمكن أن يتجزّأ من خلال قطع البيت الداخلي، يصبح بؤرة للحكي ويا ما للفلسطيني من حكايات صنيع رشاد أبو شاور في « سأرى بعينيك يا حبيبي»(2012) تحفل بأسماء العائلات والعشائر، وتعدّد التقاليد هي روح وثقافة الأمكنة تُلحقها بشجرة أنساب، تحسب أنك أمام رواية إتنوغرافية لشدة حرص الكاتب على نحت البيئة والمعلومة الخَلْقية. عند أبو شاور قبلها» العشاق»(1977) هي أريحا المسمّاة في الرواية(مدينة القمر) يؤرّخ لها من الألف الثالث ق م إلى عشية حرب 67 ثم يقدمها شخصية كاملة:» بوّابة فلسطين، منها دخل الغزاة، ومنها خرجوا(…) إنها مدينة الأساطير والواقع الشرس كشمسها». نابلس المكان الأثير لسحر خليفة يكفي « باب الساحة»(1990) رمزها باب نابلس التاريخية إطارًا لمعيشٍ فلسطينيٍّ عقب الانتفاضة الأولى 1987. من المكان الحيّز والأثر النفسي إلى الفضاء، الرواية الرائدة لغسان كنفاني» رجال في الشمس» (1963) مثاله الأشهر.
بل المتن الروائي الفلسطيني برُمّته خزانة للخريطة الجغرافية لفلسطين والمدن والأحياء الأسماء، للقدس وحدها مدونة سردية منذ جبرا إبراهيم جبرا(1919ـ1994) إلى محمود شقير ونسب أديب حسين في « أسرار أبقتها القدس معي»(2017). فنخلص إلى أن الأديب الفلسطيني قاوم وهو يصون ذاكرة الوطن من الزوال، ويخلّد أمكنته في الرواية، هي البدء عنده والملاذ الأخير. اليوم، كأمس، حين يعتبر الاحتلال الإسرائيلي أنه محا غزة من الوجود بعد ما ألحقه بها من دمار، وبعد أن بدّل أسماء المدن والحارات، ستطلع له كالجن ناتئةً متوهجةً تصرخ من كلمات شواهد القبور والدفن الجماعي موصوفة ومعلنة في الروايات القادمة أسماء: جباليا، بيت لاهيا، الشجاعية، تلّ الهوى، حيّ الرمال، خان يونس!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 20/12/2023