السينما المغربية الأخرى
سعيد منتسب
بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة (27 أكتوبر/ 4 نونبر) يتجدد الحديث عن تركيبة السينما المغربية، على مستوى اللغة والمضامين والأشكال والحساسيات. هناك من يرى أنه من الضروري أن يلتقي «صورته» في هذه السينما، لأن نقطة الانطلاق تبدأ، وجوبا، من المحلية، أي من الذات، وليس عبر الاقتراض من الآخر، والتشبه به، ومحاولة التباري معه حول «شيء» قام بخلقه وبنائه وتقعيده. وهناك من يرى أن السينما ليست موقفا مغلقا أو قضية وطنية أو شأنا مقدسا، ودليله على ذلك أن السينما فن إنساني، لا يغيظه أن ينهل من السرديات الأخرى. فن لا يبالي بإخفاء مرجعياته و»متناصاته». فن مكشوف لا يهمه أن يحل مشكلة على عجل، كما لا يعاني من أي قصور حاد في الوعي بالذات. صورة غير جاهزة لها قدرة عالية على القول. وبين هذا الفريق وذاك، يبقى السؤال المطروح هو: هل يصح الحديث عن انتماء الأفلام المغربية جميعها إلى دال سردي واحد؟ ألسنا بصدد سرديات متعددة، كل واحدة تلتفت باستمرار في مقترحاتها؟ ألا يمكن الحديث عن سينما ما زالت تتكئ على التجريب كمرتكز حاسم لتحققها؟ ألا يعتبر هذا التجريب نوعا من الانكماش في المشغل الخاص بكل تجربة؟
لفرط تنوع الأفلام واختلاف أشكالها، وأيضا للمغالاة في التمييز بين سردياتها، لا يمكن الحديث عن هوية سينمائية ثابتة. ذلك أن هناك من السينمائيين المغاربة من يعتبر خطاب الهوية في السينما مجرد وهم أو عائق ينبغي تجاوزه من أجل تحقيق اليقظة السينمائية المرجوة. وعليه، يمعن هؤلاء في تنظيم الزيارات إلى السرديات السينمائية الأخرى، وغض الطرف عن «الحكاية الخاصة» واحتقارها والحكم بتخلفها وغير قابليتها لـ»الأفلمة». ولذلك، يعتبرون بوضوح، وبدون أي مركب نقص، أن الاقتفاء لحظة حاسمة ينبغي أن تتصدر الاهتمام لإخراج السينما من غرفة العناية. فعل هم محقون؟
من الواضح أن الأفلام ترتبط بأصحابها الذين يقترحون حكاياتها ولغاتها وأشكالها الجمالية. هذا اشتراط غير قابل للدحض لأنه مرتبط برؤية إبداعية تؤطر العمل الفني. بيد أن الارتماء الحر نحو «ما نستهلكه» أو «ما يؤثر فينا»، ولو كان غيريا، لن يقودنا إلى أي سينما «مختلفة» أو «تكاملية» أو «مستقلة»، ما دام يرتكز على التطريس، أو على الجدل القائم بين الأصل والفرع. ذلك أن الفرع لن يتحسس دربه إلى بالقياس إلى الأصل، وهذا ما يصيب الإبداع في مقتل. ولذلك، فإن ارتباط العمل بالمبدع ينبغي أن يندرج في إطار شامل لا يقفز على مجموعة من الاشتراطات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمالية.
إن السينما لا تنجز بالاقتداء بالتجارب الأخرى، بل بالنظر إلى إمكاناتها وممكناتها، أي إلى ما لا يقلل من شأنها إبداعيا. ومن تم فالسينما المغربية التي تراهن على الاستغراب لتتحقق بدعوى «الكونية»، لا يمكنها أن تصنع لنفسها جناحين دون دعامة ثقافية، ودون دعم مؤسساتي ينتصر للسردية المغربية قيميا وأخلاقيا، مع الحفاظ على حرية تناول كل الموضوعات، ومن زاوية نظر متعددة، وبأشكال فنية وجمالية مبتكرة. ذلك أن الحرية غير قابلة للتفاوض، كما أن الإبداع غير قابل لتدوير المتاح.
هناك سينمائيون مغاربة جيدون، على قلتهم. يحاولون أن يتعاملوا مع السينما انطلاقا من خصوصيتهم الثقافية مع الانفتاح اللازم على مختلف التجارب العالمية. هؤلاء لا ينكرون انتماءهم إلى سردية تراكمية كبرى، على مستوى التاريخ والأدب والواقع السياسي والاجتماعي. كما لا يعتبرون سرديتهم ضعيفة أو لا تتوافق مع الملاحم أو التراجيديات الكبرى، أو تستحق سوء المعاملة. لا يمجدون شكسبير على حساب الطيب الصديقي، ولا ينتصرون لغابرييل غارثيا ماركيز على حساب محمد زفزاف. بل يرون أن السردية المغربية فضاءات تستحق أن يشتغلوا عليها بكثافة، لأنها السبيل الوحيد لإنجاز سينما تتضمّن معنى يرتكز على ما يجعلها مغرية للآخرين، أولا للجمهور، وثانيا للسرديات الأخرى المجاورة والبعيدة.
إن السينما، مع التطور التكنولوجي ومع التنافسية الشرسة للسرديات البديلة، على مستوى فن الفيديو والفن الرقمي والفنون الفرجوية الأخرى، لا يمكنها إلا أن تكون «سينما أخرى» لتحافظ على وجودها، وعلى جمهورها الذي ما زال يبحث عنها منذ وقتٍ طويل. وحتى تتحقق هذه السينما الأخرى، على المستوى المغربي، لا بد أن تتخلص من عقدة الاقتفاء بغزارة استثنائية، وأن تدرب نفسها على الوقوف طويلا أمام المرآة، وأن تقرأ «ممكناتها» كثيرا وبشكل معمق، وأن تستعيد الحماس لمغربيتها، لتعميق علاقاتها بصورتها وحكاياتها وواقعها، وأخيرا.. أن تغادر ترهلها الجمالي والشكلي، ومغالاتها في السقوط في الحفر السردية..
الكاتب : سعيد منتسب - بتاريخ : 28/10/2023