الشأن المحلي ومستوى اللامركزية واللاتركيز
بقلم مصطفى المتوكل الساحلي
إن الحديث عن نقل أو تفويض السلط في إطار اللامركزية، يعني جعل الادارة الترابية جهويا وإقليميا ومحليا، تملك وتمارس اختصاصات الحكومة المركزية، وتتخذ القرارات المتعلقة بها تأسيسا وإدارة وتنفيذا.
ويهم اللاتركيز التوسع في نقل وتفويض السلط والاختصاصات للجماعات الترابية المحلية والإقليمية والجهوية، بما يحقق ويضمن الانسجام والتكامل تخطيطا وتأطيرا وتأهيلا وتنمية، مع نقل الموارد المالية ذات الصلة بالاختصاصات المنقولة، وامتلاك الآليات اللازمة لإنجازها وتدبيرها، باستحضار دور الدولة بمؤسساتها المختلفة، والتي تمتلك الخبرات والكفاءات المهمة والمتميزة، ذات صلة بالاختصاصات المنقولة، لضمان مواكبة إيجابية تيسر وتنجح أدوار المؤسسات الترابية، لتكون في مستوى التطلعات والبناء القاعدي لدولة المؤسسات، وتحقيق شراكات فعلية مستدامة، مرنة ومتكاملة، توظف فيها الثروات والقدرات الترابية والوطنية، من أجل عدالة مجالية شاملة، تحقق نموا وتقدما ونهضة على مستوى التجهيزات والبنيات التحتية، لتوفير شروط العيش الكريم، بوجود المؤسسات القاعدية الترابية المحققة لسياسة تقريب المصالح والخدمات اللازمة في جميع المجالات الاساسية والضرورية.
وفي هذا السياق، نذكر بفقرات من التصريح الحكومي للوزير الاول عبد الرحمن اليوسفي بعد تشكيل حكومة التناوب الانتقالي التوافقي:
إن إصلاح الإدارة وعصرنتها، يشكلان هدفا أساسيا لعمل الحكومة. وإن طموحنا في هذا الميدان، أن نساعد على أن تصبح إدارتنا إدارة فعالة منكبة على مهامها الحيوية، متوفرة على موارد في مستوى حاجيتها الحقيقية، مهتمة بتقديم خدمات عمومية جيدة وبأقل تكلفة، منصتة باستمرار لمحيطها.
ولهذا الغرض، فإن إعادة تنظيم الهياكل الادارية، والانخراط الكامل في تطبيق اللامركزية، ومحاربة التعقيد والبطء، وإقامة علاقات جديدة بين الإدارة والمواطن، تشكل الركائز الأساسية للبرنامج الحكومي.
وفي نفس السياق، يوضح الدستور المغربي في الفصل 145 المهام الجديدة لممثلي السلطة المركزية.
يمثل ولاة الجهات وعمال الأقاليم والعمالات، السلطة المركزية في الجماعات الترابية.
يعمل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الادارية.
يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.
يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها.
ونحيل على المواد من 135 إلى 144 الباب التاسع من الدستور المتعلق بالجهات والجماعات الترابية الاخرى.
إن التوازن بين توسيع اختصاصات العمال والولاة في إطار اللاتركيز، ليقوموا بكل مهامهم باعتبارهم مؤطرين ومنسقين ما بين كل القطاعات الحكومية، يطرح على كل الفاعلين والمعنيين تساؤلات منها:
هل يتطلب الأمر تبعا لذلك أن يكونوا تابعين عمليا لمؤسسة رئيس الحكومة؟ أم يستحسن لاعتبارات احترازية أن يكونوا خاضعين لوصاية وإدارة وزارة الداخلية، حتى تمارس كل اختصاصات الحكومة محليا وإقلميا وجهويا في علاقة باعتبارهم مؤسسة مستقلة يفترض أن تتبع لما كان يسمى وزارة السيادة لتجنيب التعاطي معها منطق سياسي حزبي ضيق؟
وهل يستوجب الأمر أن تنقل اختصاصات العمال والولاة تبعا لذلك إلى رؤساء الدوائر ووضع مخططات تنموية، تحقق عدالة مجالية متكاملة بين القطاعات على مستوى المجال الإدراي الترابي الإقليمي، وتحويل الاعتمادات المالية اللازمة ليتم تدبيرها وتنفيذها بهيئة مشتركة، يؤطرها القانون بعضوية رؤساء الجماعات الترابية يحسمون فيها كل قضاياهم المحلية والمشتركة ترابيا، لضمان تنمية أفقية شاملة، تحد وتقطع مع اللاتوازن بين الجهات من جهة، والاقاليم من جهة ثانية، والدوائر الترابية الإدارية داخل الإقليم الواحد من جهة ثالثة، أي الجماعات الترابية. . وهل أصبحنا كدولة جاهزين فعليا لتوسيع اختصاصات الجماعات الترابية لتكون بمثابة حكومات محلية، بحيث تصبح قادرة على ترجمة وتنفيذ التنمية في علاقة بالمحلي وبرامج المصالح الخارجية ليصبح للتعاقد أوجه مترابطة وملزمة: مع الناخبين، ومع المنتخبين، وتعاقد مع المصالح المركزية وممثليها الجهويين والإقليميين، ومع الدولة حتى يكون هناك معنى كامل لربط المسؤولية بالمحاسبة على كل المستويات.
نقف في هذا الموضوع على الإكراهات والإشكالات التي تتسبب في تأخر تنفيذ العديد من المشاريع والبرامج التنموية بسبب الشراكات بين الجماعات الترابية وقطاعات حكومية، وأحيانا حتى بين القطاعات الحكومية مركزيا كما حصل في عدة جهات وأقاليم وجماعات، بالتأخر في توفير وتحويل الاعتمادات الملتزم بها، أو التخلي عن المشروع، أو عدم موافقة القطاعات الحكومية على تخصيص أو تحويل عقارات مطلوبة لإقامة مشاريع وبرامج تنموية مهيكلة.
ومن هنا، تطرح قضايا التمويلات الكافية، وتوفير وتخصيص العقارات اللازمة لإنجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والمهيكلة بما فيها شق الطرقات في أملاك الخواص.
إن المدن وخاصة العتيقة، تجد نفسها أمام إشكاليات متداخلة في هذا الباب، حيث تتواجد عقارات وأملاك الأوقاف في أهم المواقع والمناطق، مما يستوجب الإجابة عن سؤال نقل ملكية العقارات الحبسية، لتحقيق المصلحة العامة للجماعات الترابية، بأن تقوم الوزارة الوصية بإنجاز المشروع، وتقوم بتسييره عوض الجماعة أو تفوض لاحقا إدارته لها، وبما أنها تقوم ببناء المحلات والمراكز التجارية كالقصاريات، فما المانع من أن تقدم على إنجاز وتنفيذ برامج تقترحها الجماعة على أراضيها مثل المحطات الطرقية، وتخصيص عقارات للبرامج والخدمات الاجتماعية، بما فيها بناء مراكز الإيواء للفقراء والمحتاجين والعجزة والفقراء، وتحويل المرافق الصحية المرتبطة بالمساجد لتصبح عمومية، لتساهم بشكل قوي في معالجة النقص الكبير في المرافق الصحية بكل المدن وفي الآن نفسه تشكل موردا ماليا لها بكرائها. إلخ
ونفس الامر يتعلق بالقطاعات الوصية على أملاك الدولة تعلق سواء أراضي الجموع، أو الأملاك المخزنية، أو الأملاك الغابوية، وحتى الأملاك العسكرية التي لم تعد مستغلة عسكريا.
وفي علاقة بالموضوع، نطرح كذلك إشكاليات التسيير بالجماعات القروية ،خاصة الجبلية، التي تجد نفسها محاصرة بين ضعف وهزالة الموارد المالية الذاتية للجماعة، ومحدودية الاعتمادات المحولة من وزارة الداخلية للتوازن المالي، وبـين وضعية المجال العقاري لتراب الجماعة، والذي هو إما في ملك الخواص، أو في ملك قطاعات حكومية، ونذكر هنا بالدور التاريخي الذي كانت تلعبه الأراضي المشتركة لسكان العالم القروي، والتي نظم العرف طرق استغلالها، واستثمار خيراتها، وفق ضوابط القبيلة والساكنة المجاورة لهم حرثا ورعيا وجنيا للمحاصيل وتوظيفات أخرى، والتي تحول العديد منها وفق القوانين التي سطرت ما بعد العشرية الأولى من القرن الماضي إلى ما يعرف بالأراضي الغابوية، لنثير الانتباه إلى الترابط القوي بين استمرار وجود، واستقرار سكان العالم القروي ،خاصة بالمناطق الجبلية مع حماية حقوقهم وتراثهم وثرواتهم الغابوية والمعدنية بمجالاتهم الترابية باختلاف تسمياتها، والتي خاضوا بشأنها صراعات قوية ضد الاستعمار.
إن توجه الدولة إلى تمليك الاراضي السلالية لذوي الحقوق مهم جدا، لأن فيه انصافا ومصالحة وتنزيلا عمليا لقيم وتجليات العدالة المجالية، لتمكينهم من إدارة وتدبير والاستثمار في أراض كانت في ملك والديهم وأجدادهم قبل دخول الاستعمار المغرب.
وهنا لابد، أن نثير بعض الإشكاليات التي نجمت عن تفويت وزارة الداخلية بالبيع لعقارات أراضي الجموع للجماعات الترابية، والتي يضبطها ويحميها تحديد طوبوغرافي إداري، يجعلها في مرتبة العقار المحفظ حيث لاتتملك بالأقدمية ولا بالاستمرار، ولا يمكن لذوي الحقوق بيعها. والمثير في طرح هذه المسألة، هو أنه تسبب في صراعات بين الجماعات والسلطات مع ذوي الحقوق، وأثار نضالات مشروعة تطالب بإنصاف ذوي الحقوق، كما أفرز بعد انتقال الملكية من الداخلية الوصية عليها إلى الجماعة الترابية سقوط الحماية عن العقار موضوع البيع، حيث يخضع لإجراءات التحفيظ بكل مساطرها بما في ذلك التعرضات والدعاوى، مما يدخل الجماعات وذوي الحقوق المعنيين في مساطر التقاضي، التي قد تعطل مصالح كل الأطراف، كما يمكن أن تعرقل برامج تنموية…، وفي هذا مفارقة غير مفهومة، إذ يفترض في العقار المحفظ أو المحدد من طرف الدولة والتي تتصرف فيه، أن يضمن ويحقق التملك، بمجرد إتمام البيع بنفس الحدود الرسمية المعتمدة من طرف الدولة، كما يفترض أن يكون تحفيظ ممتلكات الجماعات الترابية مجانيا في إطار حماية مواردها المالية، وتيسير تحصين أملاكها العامة والخاصة. إلخ.
وفي إطار رؤية وتوجهات عدة خطب ملكية ومنها المقدم في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية التاسعة 11 أكتوبر 2013. نذكر:
((. الانتداب الجماعي المحلي أو الجهوي، الذي يكتسي أهمية أكبر، في الواقع السياسي الوطني، لأنه يرتبط بالمعيش اليومي للمواطنين، الذين يختارون الأشخاص والأحزاب الذين يتولون تدبير قضاياهم اليومية.فالمجالس الجماعية، هي المسؤولة عن تدبير الخدمات الأساسية، التي يحتاجها المواطن كل يوم. أما الحكومة، فتقوم بوضع السياسات العمومية، والمخططات القطاعية، وتعمل على تطبيقها.
فالوزير، ليس مسؤولا عن توفير الماء والكهرباء والنقل العمومي، أو عن نظافة الجماعة أو الحي أو المدينة، وجودة الطرق بها، بل إن المنتخبين الجماعيين هم المسؤولون عن هذه الخدمات العمومية، في نطاق دوائرهم الانتخابية، أمام السكان الذين صوتوا عليهم. فهم مكلفون بإطلwاق وتنفيذ أوراش ومشاريع التنمية بمناطق نفوذهم لخلق فرص الشغل، وتوفير سبل الدخل القار للمواطنين.
إنها مهمة نبيلة وجسيمة، تتطلب الصدق والنزاهة وروح المسؤولية العالية، والقرب من المواطن، والتواصل المستمر معه، والإنصات لانشغالاته الملحة، والسهر على قضاء أغراضه الإدارية والاجتماعية.
غير أنه في الواقع، يلاحظ تفاوت كبير في مستويات تدبير الشأن المحلي والجهوي.))
ومما جاء في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في المؤتمر الرابع لمنظمة المدن والحكومات المحلية المتحدة المنعقد في الرباط 2 اكتوبر 2013:
((إن انخراط المغرب المستمر في مسلسل نظام اللامركزية الترابية يتجلى، على الخصوص، في التوسيع التدريجي لمجال اختصاصات وتدخلات الجماعات الترابية، لتنهض بأدوارها التنموية على الوجه الأفضل، إذ لم يعد مستساغا اليوم، من منظور الحكامة الترابية الجيدة، أن يحتكر المستوى المركزي مسؤولية تحديد الاستراتيجيات التنموية، التي تستهدف المستوى الترابي.)). و. ((وعيا منا بجسامة المسؤوليات الملقاة على عاتق مختلف المسؤولين والفاعلين الجهويين والمحليين، في مجال التأسيس لحكامة جيدة، اقتصادية واجتماعية وتنموية، على المستوى الترابي، ما فتئنا نحث الدولة على مدهم بالآليات القانونية، والوسائل المالية والبشرية الضرورية، حتى يتمكنوا من الاضطلاع الأمثل بالمسؤوليات المنوطة بهم في مجال التنمية، وتدعيم خدمات القرب، التي أضحت اليوم مطالب ملحة، يتعين الاستجابة الملائمة لها، وإدراجها في صلب اهتمامات السياسات العمومية المحلية.))
وجاء في رسالة ملكية إلى المشاركين في أشغال المنتدى البرلماني الثاني للجهات الرباط 16 نونبر 2017:
((. وفي المقام الثالث، تأتي مسألة امتداد الاختصاصات المخولة للجماعات الترابية، وللمجالس الجهوية على وجه الخصوص. فعلى أي حال، لا يتعلق الأمر بإثقال كاهلها باختصاصات متعددة ومتنوعة، قد تُفضي إلى الاساءة إلى مصداقيتها، بالنظر إلى الخصاص الذي ستعاني منه لا محالة، بل الأجدى من ذلك الحرص على أن تكون تلك الاختصاصات مضبوطة بما يكفي، لتفادي الارتباك والتداخلات وتكرار المهام، وأن تكون هذه الاختصاصات قابلة للتوسع تدريجيا، بموازاة مع نمو مواردها البشرية والمالية.
وفي هذا الصدد، ندعو إلى تشاور ناجع لتحديد الاختصاصات التي تتميز بدرجة عالية من الدقة – ضمن تلك المرصودة للجهات في القانون التنظيمي- والتي ستتولاها الجهات في مرحلة أولى، على أن تجرى عليها التحيينات بصفة دورية.)). إن الضبابية وعدم وضوح الرؤية عند المواطنين والمواطنات والتي تشوب مهام وأدوار الجماعات الترابية وإمكانيات وقدرات كل جماعة على حدة في علاقة بأدوار الولاة والعمال والقطاعات الحكومية حسب اختصاصاتها ومجال تدخلها ومنها أساسا الوكالات الحضرية صاحبة الاختصاص في مجال التعمير، كما أن التضليل السياسي والإعلامي اللذين يصرف من خلالهما صراعات متخلفة وتصفية حسابات بمنطق انتقامي وتخريبي، يتسبب في إساءات خطيرة للعمل السياسي يدفع الناس لليأس والابتعاد عن الآلية الديمقراطية التي تنبني عليها مؤسسات الدولة وتعمل على ضمان تدافع ناضج وحكيم يطور آليات التنافس والعطاء في خدمة الصالح العام ومصالح الوطن.
لهذا يكون من الواجب على الدولة والأحزاب السياسية وكذا المجتمع المدني، أن يترجموا مواد الدستور إلى تعاقد وميثاق شرف وأخلاق بكل تفاصيله الضامنة لإرجاع المصداقية للعمل الحزبي، وتحفيز الشباب للاِنخراط والفعل في الشأن السياسي، والمساهمة القوية في إدراة الشؤون المحلية والعامة..
الكاتب : بقلم مصطفى المتوكل الساحلي - بتاريخ : 18/01/2019