الانتخابات الرئاسية الفرنسية، تلوح في آفاق فرنسا بعد حوالي أربعة عشَر شهرا، ربيع سنة 2022… اليمين المتطرف يقرع طبول اقتحامه للدولة، عبر الانتخابات، بالكثير من الثقة الظفراوية… حتى جرى التطبيع معه في الحياة السياسية وخطابه له صدى، بل تعيد إنتاجه القوى السياسية الفرنسية، بهاجس الكسب الانتخابي… الجسم السياسي الفرنسي، وكل المجتمع الفرنسي يتأهب لتحمل حمى الحملة الانتخابية، وفرنسا تخوض حملة التطعيم الاجتماعي ضد حمى فيروس هذه الجائحة… فرنسا اليوم، تصارع من أجل صد آثار الجائحة عليها، بيولوجيا، اقتصاديا واجتماعيا… وستدخل، وهي تهرول في اتجاه الانتخابات الرئاسية، أجواء زوبعة سياسية تهب على نظامها من يساره كما من يمينه… جائحة ثم زوبعة، وفي الزوبعة الكثير من غبار الجائحة… هذا كثير على بلد، وخاصة في واقع فرنسا. وهي التي تتوغل في عبور صحرائها الخاصة… في لوحة القيادة لإدارة فرنسا، الإشارات الصفراء وحتى الحمراء، المنبهة لأعطاب محتملة أو أخطار محدقة، تغمز بشدة في الخانات السياسية الاقتصادية والاجتماعية. الوضع الاقتصادي في أسوأ مؤشراته، منذ الحرب العالمية الثانية. الوضع الاجتماعي بالغ الاحتقان، وتخترق أنسجته تمزقات سياسية تتغذى من تدهور الوضع المعيشي وتغذيه. الفعل السياسي أفرغته السياسوية من أمصال الثقة الشعبية. من يتتبع الإعلام الفرنسي يوميا، يسمع ويقرأ أشد مما أشرت إليه وأعوص وأهول، تبدو فرنسا تائهة في البحث عن نفسها ومرتبكة في التعاطي مع تدافع مكوناتها وخائرة الجهد في صون تاريخها من آثار أعاصير الجغرافيا.
السياسة الخارجية الفرنسية، في كل هذا الوضع، ما موقعها؟… بلد يشكو «وهنا» اقتصاديا و»محموم» سياسيا و»مرتبك» اجتماعيا… كيف ستنصرف دولته في سياستها الخارجية لتجعلها ذات عائد ومردودية على وضعها الداخلي، فرنسا بدون حضور دولي، فاعل ولامع لن تكون هي فرنسا كما يعرفها العالم وكما هي تعرف نفسها… الحضور الفرنسي في العالم توسل بالحروب وبالاستعمار… أساسا في افريقيا وبعض البلاد العربية وأقطار آسيوية… طوى التاريخ ذلك الماضي العنيف والأليم… وحافظت فرنسا بعده على تميز في «النفوذ» الخارجي أساسا عبر مقومات ثقافية، حافظت لها على مداخل لتأثير سياسي وانتفاع اقتصادي. العالم تغير كثيرا، وفاعلون جدد برزوا بمغريات وجاذبيات وحتى بضغوطات نوعية وأقوى.
تراجعت فرنسا أمام شراسة المنافسة التي واجهت مميزاتها. فقدت مواقع الصدارة، وفي حالات مواقع الفرادة، في لغتها وثقافتها، عطرها، مطبخا، جبنها ونبيذها، وفي الأناقة والشياكة والايتيكيت الديبلوماسي، ومع ما صاحب ذلك من تقلص وحتى شحوب منتوجاتها في «الأسواق» والاقتصادات العالمية… وكان لا بد لمناعتها السياسية الخارجية من أن تضعف وأن يخفت معها صوتها، أين يفترض أن يدوي ويسمع: مثل ما هو حاصل لها اليوم في لبنان، الذي لم تنفع فيه «أوامر» الرئيس ماكرون لقادة السياسة فيه بحل الأزمة الحكومية… أو ما يحيط بوجودها في منطقة الساحل والصحراء من تعاظم الأخطار، وتضييق على حركتها وحتى ما يؤشر على حشرها في زاوية الصراع لإخراجها من المنطقة…
المغرب يساحل المنطقة عبر صحرائه، مما أعطى ويعطي للعلاقات المغربية الفرنسية مجالا آخر للعمل المشترك وللتفاهم، يضاف إلى المجالات المعتادة… تلك التي تولدت من التاريخ أو تلك التي أوجدت بين البلدين جسورا ومصالح على شساعة الجغرافية-الإنسانية والسياسية التي تجمعهما.
رغم الصعوبات التي واجهتها حكومات فرنسية في صون توازن علاقاتها بين المغرب والجزائر… ورغم الابتزاز الجزائري لفرنسا بوخز ضميرها، كلما لمست انصرافها عنها نحو المغرب… رغم كل ذلك، حافظت العلاقات المغربية الفرنسية على حيويتها وديناميكيتها. تمر من مطبات وتجتاز منعرجات أو منحدرات… ولكن تعود إلى خط سيرها تتحرك فيه بسلاسة، حيث يكون وقودها الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة… وتكون صافية، لا توجهها عقد ولا أحقاد.
فرنسا موجودة في المغرب، وبأفضليات، في مواقع مؤثرة واستراتيجية اقتصادية، ثقافية واجتماعية… ولها حضور سياسي مميز مع المغرب في المحفل الأممي والصحراء المغربية تجتاز فيه مخاض دمغ الصحراء المغربية بالشرعية الدولية… في مجلس الأمن كانت فرنسا هي الموجه، نحو الصواب ونحو الحكمة، في تبني مقترح الحكم الذاتي الذي بادر به المغرب، ولو في مواصفات مضمونه ومراميه، كما هي في القرار الأخير للمجلس. مع مستجد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وبجاذبيته داخل المجلس وتداعياته الإستراتيجية الاقتصادية في أوضاع المنطقة عامة… ستكون الحاجة إلى فرنسا أكثر… دعما لتثبيت السلم في المنطقة وصونا لمصالح فرنسا فيها، وتفعيلا للديناميكية النوعية… فيها وأيضا.
شخصيات فرنسية، لها ثقلها السياسي وموقعها المؤسسي المؤثر، بادرت إلى مطالبة الدولة الفرنسية بالاعتراف بمغربية الصحراء، إسوة بالقرار الأمريكي. وهو الاعتراف الذي كان حريا بفرنسا أن تكون المبادرة به… لأنها جاهزة سياسيا لذلك الاعتراف، بما تعبر عنه في مجلس الأمن من مواقف داعمة للاختيار الوطني المغربي الشرعي، السلمي، والعادل، لوقف المنازعة الجزائرية حل الصحراء المغربية، تلك الشخصيات الفرنسية، الوازنة، والتي تكبر لائحتها وتتسع كل يوم، تلح، تصريحا أو تلميحا، على العائد السياسي والاقتصادي الكبير لفرنسا من تواجدها فاعلا في مسارات التحول الاستراتيجي والاقتصادي الذي انفتح في الصحراء المغربية ومن خلالها يمتد إلى إفريقيا.
أزمات الداخل الفرنسي، يمكن للديبلوماسية الفرنسية أن تساعد على إخمادها بأن تنفسها بزخات أمل، في ديناميكية سياسية واقتصادية في اتجاه إفريقيا، عبر الروافع المغربية… فرنسا المتقوقعة على نفسها لن تزيد أزماتها إلا استفحالا… التحرك الفرنسي في اتجاه أوروبا وداخلها محدود الفعالية إن لم يكن عديم المردودية. آسيا، «نمورها» أقفلتها في وجه فرنسا منذ أمد بعيد… أمريكا بشمالها وجنوبها يبعدها عن فرنسا محيط، من فوارق تاريخية وتسيجها واشنطن… إفريقيا وحدها التي تملك ما تهبه لفرنسا من فرص الاستثمار فيها سياسيا واقتصاديا، على قاعدة رابح رابح، والمغرب يمكنه اقتراح مسار اندماجي لفرنسا في مجمل ديناميكيته التنموية، المتنوعة والمتسعة، وخاصة منها تلك التي تسري في الصحراء المغربية والمتمددة في إفريقيا.
المغرب اليوم في وضع مختلف عن صورة له، قديمة، ربما آلفها بعض الفاعلين في السياسة الفرنسية… المغرب اليوم يمضي واثقا في نهج التقدم، مستنهضا كل طاقاته، يعي مشكلاته، ينهض من كبواته ويغادر مواطن ضعف، صاعدا خطوة خطوة، بهدوء وبثبات، منجزا محركات قوته… المغرب اليوم واعد لذاته ولغيره، يولد مد رياح منشطة لدورات مساراته، له ولغيره… إنه المغرب الذي لا يستجدي أحدا، إنه يستدعي للفائدة من يرغب ويقدر.. ومن موقع الفاعل وليس السائل.. مرحبا بفرنسا، إذا هي رغبت، ورأت في مقدمها إلى الصحراء المغربية… طائل… المغرب يمكن أن يعيدها إلى إفريقيا وهي متخلصة من مرجعيات الماضي، من آلامه، من كوابحه ومن مسبقاته… يعيدها إلى إفريقيا ومتجهة إلى المستقبل بقيم التفاعل، التكافل، التبادل… والتفاؤل.