الصين التي في خاطري: بداية تساؤل مشروع
بديعة الراضي
الأسئلة التي كانت معلقة في ذهني وأنا أفكر في الذهاب إلى الصين، لم تستبعد البحث في كل تلك الصور النمطية التي رسمها التداول الاجتماعي حول هذا البلد المغري بالفعل، ببحث ميداني يعي جيدا محطات تاريخية تراكمية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعرفها الصين بلغة الالتفاف حول الذات الجماعية، لتطويرها بعد تحصينها، من لغات أو لغة الانخراط في أسئلة المحيطات الإقليمية والدولية، بعامل الاحتواء الموظف للمجال العالمي بالفعل والقوة، مع غياب عنصر التكافؤ أو لغة الند للند، التي ينبغي أن تكون، في عالم نريد أن نعنونه بعالم الأنسنة، في كونية عادلة ومنصفة ومتضامنة .
لكن رحلتي إلى منطقة قوانغشى الذاتية الحكم ، في إطار زيارة استطلاعية لكوادر الأحزاب السياسية إلى هذه المنطقة، استبعدت فيها الجانب المهني، وأحضرت فضول الكاتبة المحاصرة بمخاض الكتابة.
ولا أخفيكم قرائي وأنا أزور الصين لأول مرة، كانت مخيلتي تمنعني من تصديق أي دعاية أعتبرها مغرضة، في حق بلد أراد له مواطنوه أن يكون أول قوة اقتصادية كبرى في العالم، لكن بالمقابل كنت أعتقد أن هؤلاء المواطنون استبعدوا السياسة واستحضروا لغة الاقتصاد، وانكبوا يشتغلون الساعات الطوال من أجل الإنتاج الذي يعرف كيف يوظف موارد بشرية هامة تجاوزت المليار نسمة موزعة على التراب الصيني.
صورة عابرة في ذهني، لكن تحمل دلالتها على مستوى الواقع الصيني الذي يضع الاقتصاد في منظومة متكاملة، تحمل حجمها في ضرورة المتابعة بالمعرفة والمعلومة التي يقدمها الصينيون بفخر واعتزاز، في قدرتهم على الاستثمار في الأرض والشجر والبشر، كما البحر والنهر والذاكرة التي تعود إلى خمسة آلاف سنة .
بصدق لم يشغلني رقم الرحلة، ولا الطائرة التي تعود إلى شركة الخطوط التركية، ولم أتساءل عن علاقة أردوغان بربيع أحمل صورة سيئة عنه، عالقة في ذهني، توزع المرارة على إحساسي وتفكيري، كلما تذكرت أن الأغبياء منا وظفوا بالفعل والقوة في خلق التراجعات الكبرى في المسار والقضية. ولم أفكر في علاقة أردوغان بحلم أتاتورك، و لا كيف أسس هذا الأخير تركيا الحديثة، ولا هل بالفعل نجح في إلغاء الخلافة الإسلامية من جذورها بإعلانه علمانية الدولة.
ولم أبحث في ذهني عن الاسم الذي أطلق على أتاتورك، والمتعلق بالذئب الأغبر، ولا عن حدود تركيا مع سوريا، ولا عن حجم الدمار الذي أنتجه الفكر المتطرف في الدين والسياسة، لأنني فقط أحسست أن الآذان كانت مغلقة، عندما كتبنا مرارا عن التوجه الخاطئ ، بانبثاق خطاب الدفع بهذا العالم إلى النفق المسدود، باسم لغات الربيع أو الخريف أو الثورات المنتجة للخراب، في دول أرادت أن يبنى لها ديمقراطية بآليات مستوردة لا تعي نوعية التربة التي ينجز عليها الفعل، ولكن من يدفع في المركز الخفي والظاهر بهذا الخطاب، يعي جيدا أن هذه التربة مؤهلة بالفعل لتصبح أرضا لا تنجز الفعل بقدر ما ينجز عليها الفعل بمخطط يرفض « الفهايمية» أنه مؤامرة .
استبعدت هذا الخطاب بالفعل، وكنت أغمض عيني لساعات طوال في الانتظار الوصول من الدار البيضاء إلى إسطنبول تم من مطار إسطنبول إلى بكين، ومنه إلى منطقة قوانغشي الذاتية الحكم، وهي من المناطق الخمس للأقلية القومية بالصين، وتقع في جنوب غربي الخط الساحلي، منطقة تلخص حضارة صينية عريقة بكاملها.
الرحلة من بكين إلى مدينة ناننينغ ،عاصمة منطقة قوانغشي، كانت مختلفة. الوجوه متقاربة، تعلو ملامح الجدية محياها، تحس أن هؤلاء متشابهون في الفهم، يعبرون بلغة واحدة عن قناعة أنهم قادمون بالفعل إلى عالم علم أبناؤه تدمير الذات عندما يحدث التصدع بين أعضائها.
إحساس ينتابك وأنت تتطلع إلى هذه الوجوه الصارمة والتي تعي أهدافها، وكأن أحدا سطر لها كيفية أن تحيى بالمشترك في الوطن والمواطنة.
الغريب أنك عندما تطيل التطلع إلى الوجوه، تجد الرد واحدا، ابتسامة محددة بفتح الفم وإغلاقه في ثوان، دون إشراكك نفس الفضول، وتحسيسك بأنك إزاء إنسان مختلف بالفعل في قناعته أنه مشغول بذات مدمجة في موضوع وقضية.
الشاب والشابة الجميلة، والمرأة والرجل المسن، اللباس البسيط والراقي، كل هؤلاء اختاروا أن ينهضوا تباعا في زمن متفرق، ومنظم، من أجل أن يتحركوا داخل الطائرة بحركات رياضية خفيفة من أجل التغلب على التعب، في رحلة إسطنبول بكين التي تجاوزت ثماني ساعات.
حركات لم يقم بها الباقون من جنسيات مختلفة، لأن الكثير منهم استغرق في النوم ولم يستيقظ إلا على حركات تقديم وجبتي الطعام، عشاء وفطورا، من طرف مضيفي ومضيفات الطائرة.
اخترت أن أقلد هؤلاء، وقفت وراء العجوز الصيني في آخر الطائرة، والذي بدأ يركض في مكانه، في حركات شبيهة بالركض في مسافات طويلة، بدا العرق يتصبب من جبينه، وكلما ركض كلما ازداد إصرارا على الاستمرار.
بدأت أحرك قدمي وأنا أركض مثله في مكاني، ساعدني في فعل الشيء نفسه وجودي في آخر الطائرة مع تلك الوجوه التي سأنزل بعد ساعات على ترابها. جددت الركض، لم ينظر إلي أحد ولم تعلق على حركاتي المضيفة ، ولم يمنعني من فعل الشيء نفسه فضول عابر ، فكل هؤلاء اختفوا على الأقل من ذهني وأنا أجرب الانتماء إلى العالم الجديد.
الكاتب : بديعة الراضي - بتاريخ : 04/10/2017