الليل أنثروبولوجيا

سعيد عاهد

قارة علمية مجهولة تحتضن ثروات بحثية هائلة! حدود علمية جديدة تستحق فض البكارة!
هكذا أصبح الليل بالنسبة لمجموعة من الباحثين في حقول الأنثروبولوجيا والجغرافية وعلم الاجتماع إذا ما صدقنا مقالا للمركز الفرنسي للبحث العلمي المعروف برصانة أحكامه ودراساته.
هؤلاء الباحثون انتبهوا للخصاص الكبير الذي تعاني منه الدراسات متعددة التخصصات حول الساعات الفاصلة بين غروب الشمس وبزوغ الفجر. يعترف جاك غالينيي، مدير الأبحاث في مختبر الإثنولوجيا والسوسيولوجيا المقارنتين بنانتير، بوجود «فراغ مفاهيمي ومنهجي» فعلي يحجب الليل عن الباحثين. حكم يشاطره أيضا الباحث في الجغرافية لوك غويازدزينسكي (مختبر السياسات العمومية والتدخلات السياسية والمجالية) الذي يعتبر أن الليل يشكل موضوعا «غير مفكر» فيه بعد، ليس في البحث العلمي فحسب، بل كذلك في صياغة السياسات العمومية.
لكن ما سر عدم الاهتمام هذا، هذا الجهل بالليل؟
«الحس المشترك يعتقد الليل عتمة، فراغا، عدما. الليل يعتبر لحظة عطالة للأنشطة الاجتماعية. علاوة على أن الباحثين الأنثروبولوجيين ينامون ليلا»، هو ذا جواب جاك غالينيي على علامة الاستفهام السالفة.
ومع ذلك، فالصورة السائدة عن الليل بصفته مدة زمنية يخلد خلالها الناس للنوم لا تنطبق على الليل الفعلي: «الليل ورش حقيقي للابتكار والفعل، يؤكد لوك غويازدزينسكي. رحمه يعج بالحركة. كثيرة هي الأشياء التي قدر الليل تلقينها للنهار». وبالفعل، فمن المستحيل استيعاب أساطير العديد من المجتمعات العتيقة ونمط سلوكها بدون دراسة الليل. كما أنه من المستحيل، في غياب مثل هذه الدراسة، قياس مدى سطوة العولمة الساعية إلى فرض قبضتها على ساعات اليوم الأربعة والعشرين برمتها، خاصة في الغرب.
منذ أواسط عقد التسعين من القرن الماضي وعبر أربعة مؤلفات وتنظيم العديد من الندوات الدراسية، يراقب لوك غويازدزينسكي الليل. وقد لاحظ أن وتيرة «تملكه» البطيئة من قبل السلطة السياسية والاضواء تسارعت خلال منعطف القرن العشرين تحت ضغط الاقتصاد وأنماط العيش الجديدة. الباحث ذاته يشرح: «المطاعم والمتاجر صارت تبقى مفتوحة إلى وقت متأخر من الليل أكثر فأكثر، كما أن الأنشطة الليلية تتكاثر. العولمة تزحف على أوقات الفراغ والتوقف عن العمل جميعها: من استراحة وجبة الغذاء إلى أيام الأحد، مرورا بالليل».
بسبب الحانات والمراقص والكازينوهات، بات الليل قطاعا اقتصاديا كامل التوابل، تروج خلاله وتخلق ثروة تقدر بملايير الأوروهات (غربا). مدة النوم لدينا تقلصت ساعة مقارنة مع أسلافنا، و 16 بالمائة من الأجراء يشتغلون ليلا في أوربا. وبالطبع، لا يمكن لمثل هذه التحولات في ليل المدن العملاقة ألا تخلق توترات، ذلك أن المدينة التي تنام ليلا تدخل في علاقة مواجهة مع تلك التي تحتفل أو تشتغل.
بعيدا عن نمط العيش الغربي وحواضره، يقارب باحثون آخرون ليل المجتمعات التقليدية. جاك غالينيي، الاختصاصي في شعب الأوتوميس الهندي المستقر في المكسيك، من بين هؤلاء: «في السنوات الأولى لأبحاثي الميدانية، كان لدي تصور خاطئ حول الحياة الليلية. بعدها، أدركت معطيات ووقائع تجاهلتها في البداية رغم أنها محورية لفهم هذا الشعب. يعتبر الأوتوميس نفسهم شعب الليل والعتمة. أغلبية آلهتهم ليلية ونظرتهم للعالم محكومة بالدهشة الفلسفية التي يخلقها لديهم الليل». أجل، الليل بالنسبة لهذا الشعب كابوس تؤثثه أصناف عدة من القلق وكائنات شيطانية يجب تنحيتها كل مساء باللجوء إلى طقوس دفاعية معينة. لكن هذه الكائنات الشريرة والمفزعة هي نفسها التي تجلب الخصوبة والعلاج.»
من جهتهم، يسعى بعض الباحثين الآخرين إلى سبر أغوار ليالي فئات مغايرة، منهم من درس ليل راقصات الملاهي الباريسية أو الصيادين مثلا.
بمناسبة مقاربة ليل مجموعة من البحارة الفرنسيين العاملين على متن باخرة صيد تظل مبحرة طوال شهر على الأقل، اكتشف الباحث بوريس شاركوسي أن هؤلاء لا يعرفون معنى الليل كفترة راحة ونوم، بل الليل والنهار يختلطان لديهم لسببين: المركب كفضاء مغلق لا يعرف الظلمة لا ليلا ولا نهارا بسبب الأضواء الكاشفة المسلطة عليه باستمرار من جهة، وهم مجبرون على أن يكونوا جاهزين لصيد الأسماك في كل وقت وحين من جهة ثانية. لذا، نجدهم لا يستعملون إطلاقا كلمات من قبيل «الليل»، «النوم» أو «السبات» في قاموسهم التداولي، كما لو أنها كلمات تحيل على مواضيع مخزية.
إن تنامي الأبحاث حول الليل يبرز مدى الحاجة إلى أنثروبولوجيا لليل تتوفر على مناهجها الخاصة ومفاهيمها المميزة، وذلك قصد مقاربة شاملة لكافة أبعاده كخشبة للحياة وكمدة زمنية لم تعد مجرد مناسبة لمناجاة القمر والتحسر على غياب الحبيب أو القدح. مثلما يبدو أنه يجب فتح حوار عمومي حول التيمة وفق ما يطالب به بعض المهتمين بالمجال؛ حوار متعدد التخصصات يستحضر هوية الليل الخاصة، بعده الثقافي، حمولته الرومانسية، قوته الانتهاك الكامنة فيه وجانبه المنفلت والسري، وذلك حتى لا يستحيل إلى مجرد امتداد بلا شمس ولا جمال للنهار.
هو ذا ما جعل الباحث لوك غويازدزينسكي يكتب: «لا يجب قتل الليل. بل العناية به». علما أن العناية بالليل تقتضي أولا معرفته جيدا والإحاطة به كموضوع أنثروبولوجي.

الكاتب : سعيد عاهد - بتاريخ : 14/04/2017