المثقفون والمجتمع
مصطفى خلال
لم تعد النظريات الفكرية الكبرى ، وخاصة في أبعادها النقدية، هي ما يطبع العصر الذي نعيشه. لقد استعاض الوجود البشري عن هذا بما يقدمه العلم والتكنولوجيا وشتى علوم الالكترونيات ونظريات الاتصال من فتوحات لا تتوقف عن المزيد من الابتكارات المدهشة. وفي هذا الباب لم تعد أوروبا وأمريكا الولايات المتحدة تستحوذان لوحدهما على عالم الابتكارات في المجالات التكنولوجية المستحدثة.
وهناك من يرى أنه مع هذا الطغيان لأثر العلوم والتكنولوجيا بدا انحسار دور المثقفين وضعف سلطتهم في المجتمعات، بما فيها مجتمعات الديمقراطية الحقة والراسخة ، يتأكد في كل فترة من الفترات المعاصرة .
غير أن هذا الرأي هو من الضعف بحيث لا يمكن الأخذ به. فإذا كان صحيحا القول بغياب النظريات النقدية الكبرى كما كان حضورها القوي في القرون الثلاثة الماضية، فانه يمكن لنا أن نعاين نوعا من التحول في أصناف المثقفين وليس في وظائفهم وأدوارهم بخصوص سلطتهم في المجتمعات. وهي كما هو معهود ليست سلطة مباشرة أو مادية على النحو الذي يميز سلطة السياسي سواء الذي يوجد في السلطة وممارسة الحكم أو الذي يوجد في معسكر معارضتها، وإنما هي سلطة رمزية بالدرجة الأولى. فمع توسع التعليم الجامعي، برز دور الجامعيين من ذوي منتجي المعرفة في مختلف التخصصات المعرفية، وخاصة صنف الجامعيين الذين يحرصون على حضورهم في مواجهة مجمل القضايا التي تشغل المجتمع. فكلما كان لصاحب السلطة فعل ، كان للمثقفين فعل آخر اما يعضده أو يعارضه.
أما الانحسار لدور المثقفين الذي يتحدث عنه البعض، فمرده ليس الى المثقفين أنفسهم، بل الى سياسة الإقصاء المقصودة والتي تمارسها السلطة بإرادة وقصديه واضحتين. وذلك ما للمثقفين من مواقف مناوئة في العموم للسلطة وخاصة حين تكون هذه الأخيرة مستبدة أو تسلطية أو خديمة لفئة اجتماعية حصرية على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى المكونة للمجتمع ككل. والسلطة التي نعنيها هنا هي سلطتان: سلطة صاحب الحكم، وسلطة الإعلامي الذي هو في الغالب تابع للسلطة الا في ما ندر. والحال أن من يحرك المناقشة العمومية، ومن يتيح لصوت المثقف أن يسمع أكثر، هو الإعلامي الذي تبقى الحاجة الى خدماته مطلوبة على نحو لا ينقطع.
وليس هذا شأن المثقف الذي تحذر السلطة تأثيره، من هنا العمل على إقصاءه حتى وان كانت تعترف له بسلطته الرمزية. والأدهى أن المثقف هو داءما متهم، متهم من السلطة مدعية معاندته لها، ويتهمه المجتمع بالتقاعس في ما يخص الدفاع عن قضاياه التي لا تتحمل فيها السلطة مسؤولياتها..أو تسوسها على نحو لا يرضي عموم المواطنين.
وبالطبع، فان ما يهم السلطة في علاقتها بالمثقف، في حال توفر هذه العلاقة، فهي العمل على تسخيره لخدمة توجهاتها. من هنا بروز المثقف المغلوط والذي وجد داءما حتى حين كان العالم الديني أو الكاهن في الحقب الماضية البعيدة هو من ينتج المعرفة وهو من يشكل الواسطة بين السلطة والمجتمع.
ومن النادر بل من المغيب داءما اللجوء الى المثقفين لمنحهم فرصة التعبير عن تصوراتهم بخصوص معضلات المجتمع الكبرى.. البنيوية منها والطارئة. لم يحدث ذلك سوى مرة واحدة في العام 2019 حين بادر رءيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون بمبادرة استدعاء 64 مثقفا فرنسيا منهم الكتاب والجامعيون من منتجي الرموز الثقافية ومنتجي المعرفة المتخصصة. كانت فرنسا تعرف النزول الأسبوعي لنشطاء (حركة البدلات الصفراء) الى الشارع في مظاهرات منظمة سلمية وقانونية ذات مطالب اجتماعية واقتصادية صريحة وواضحة. استغرق ذلك شهورا طويلة حتى باتت مألوفة. لكن عناصر من خارج الحركة استغلت في سبت من أسبات هذه الحركة كي تقوم بأعمال فوضوية وعلى مقربة من قصر الاليزيه حيث مقر السلطة الجمهورية…أعمال عنف وكسر ونهب وفوضى صدمت الدولة والمجتمع والأحزاب السياسية وعموم الناس في فرنسا وخارجها.
ومثلت مبادرة الرءيس وهو يستدعي ذلك العدد المعتبر من المثقفين كي يتداولوا في الأزمة التي تضرب المجتمع الفرنسي مبادرة استثنائية في تاريخ علاقة السلطة بالمثقفين. ذلك أن الرءيس ساهم هو نفسه في المناقشة التي سيرها إعلامي من (راديو فرانس كيلتير)، وخضع فيها الرءيس لقواعد التنشيط الإعلامي… تعطاه الكلمة مثلما تعطى للآخرين دون تمييز.
ولا نظن أن تلك المناقشة في قصر الاليزيه كان لها أثر، فقد فاجأت أزمة كورونا الجميع وتم تعطيل كل شيء…
لكن يبقى ذا دلالة واضحة من خلال هذه الواقعة الغير مسبوقة في تاريخ المثقفين، اعتراف السلطة وخاصة في المجتمعات الديمقراطية الحقة بسلطة المثقف الرمزية وأثره في المجتمع.
وعشنا نحن في المغرب واقعة ليست من نفس الطبيعة، لكنها تحمل ذات الدلالة. وهي تلك التي سجل فيها التاريخ استدعاء عبد الله العروي، وهو نموذج المثقف المنتج للمعرفة في العالم العربي، للاعلام المكتوب مثلما استجاب لدعوة الاعلام المرئي وذلك كي يدافع على قضية خطيرة الشأن عاين فيها كمختص خطر إضعاف اللغة العربية في النظام التعليمي المغربي…
الكاتب : مصطفى خلال - بتاريخ : 02/11/2021