انبعاث جديد لروح ثورة الملك والشعب

عبد السلام رجواني

أمة واحدة نحن، ملك أصيل وشعب عريق. أمة انبنت صروحها وتوطدت أركانها عبر مئات السنين، وتناوبت عليها أزمنة الشدائد وأيام السعادة الجماعية والرخاء، فلم تزدها الملمات إلا صمودا وقوة وتماسكا، ولم تزدها الأفراح والمسرات إلا عزة واعتزازا بالنفس وطموحا في غد أفضل. أمة تنوعت روافدها الإثنية والثقافية تنوع تضاريسها الجغرافية وتعدد تجاربها التاريخية. ولأننا أمة عريقة وثرية فكرا وثقافة، صار المشترك بيننا، مهما كانت أصولنا، أمازيغية كانت أم عربية أم إفريقية، ومهما كانت ديانتنا، إسلاما كان أم يهودية أم نصرانية، ومهما كانت انتماءاتنا، اجتماعية/طبقية كانت، أم جغرافية مجالية، أم سياسية/ إديولوجية، يسمو (المشترك) على اختلافاتنا وخلافاتنا التي هي من صميم الطبيعة البشرية وسمة من سمات الحياة الديموقراطية. ويتجلى سمو المشترك أكثر فأكثر في اللحظات الحرجة وعند الأحداث المفصلية في تاريخ الأمة، تجلى ذلك حين التأم المغاربة حول الشرفاء السعديين على حساب الوطاسيين لمواجهة أطماع العثمانيين( معركة واد اللبن)، وغطرسة الإيبيريين( معركة واد المخازن)، وتجلى أيضا في وحدة الملك والشعب، كل الشعب، في معركة الاستقلال، وكانت المسيرة الخضراء أبرز تجليات الوحدة الوطنية والوعي الوطني العارم الذي تحول في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة إلى أقوى سلاح في مواجهة كل المؤامرات، في وقت لم نكن نملك ما يكفي من عدة وعتاد لمواجهة عسكرية مفتوحة مع المستعمر الإسباني الغاشم، حينما دقت ساعة الحسم، علقنا صراعاتنا الداخلية، وتناسينا جراحنا، وتغاضينا عما فعله «السفهاء» منا في الوطن والمواطنين من آثام. فكانت معركة الوحدة الوطنية مدخلا وشرطا لتدشين مسلسل ديمقراطي، كان عسيرا وطويلا، انتهى بمصالحة وطنية، وأسس لتناوب توافقي صار تناوبا ديمقراطيا شابته شوائب لا بد أن نتخلص منها إن شئنا التقدم خطوات على درب النماء والرقي الحضاري….
مرت سنوات على تلك الملحمة الشعبية بقيادة ملك همام لم تكن سياسته الداخلية موضوع إجماع، لكن أكثر الأحزاب معارضة، وهي أحزاب اليسار، لتلك السياسة، لم تتردد برهة في صنع تلك الملحمة التي أضافت لبنة نوعية في صرح الأمة المغربية. وها نحن اليوم نعيش ملحمة أخرى، رغم وجهها التراجيدي القاسي جدا في عنفه، تشهد أن المغرب، ملكا وشعبا ومؤسسات، دولة/أمة قادرة على تجديد ذاتها دون أن تفقد شيئا من هويتها ذات الجوهر الواحد والتعابير المتعددة. نعم، أطلق الزلزال المدمر، الذي نال من قرانا في الأطلس الكبير الشامخ، ولم ينل من إيمان المغاربة بقدر الله، وبقدرة الشعب على لملمة الجراح وإعادة الإعمار، (أطلق) « قومة» حقيقية شعبية قل مثيلها، أجمل ما فيها أنها كانت عفوية لم يدع لها شيخ أوعون سلطة، وصادقة، لا يحركها في المجمل، هوس انتخابوي أو مصلحة شخصية، والأروع أنها شملت المغرب من أقصاه إلى أقصاه، من الريف الشامخ، إلى العيون المعطاء، والساقية الحمراء السخية، مما يؤكد أن الحديث عن الانفصال أو النزوع إليه مجرد هراء، وأن الخطاب الاثنوي لا صدى له بين الشعب، أهل الريف البواسل كانوا سباقين إلى نجدة إخوانهم الأمازيغ في توبقال وامزميز وأعالي تزنطيست وتشكا، وأهل العيون الكرام قادوا أكبر قافلة في اتجاه المناطق المنكوبة، مقدمين بذلك للعالم أجمع، والرأي العام الدولي، والأمم المتحدة، شهادة انتمائهم الأصيل لمغرب المجد الممتدة جذوره حتى إفريقيا جنوب الصحراء، ولعل أهم مصادر الفرح والاعتزاز والأمل المشاركة الواسعة والفعالة والملفتة للنظر لشباب المغرب، ذكورا وإناثا في هذه الهبة المباركة، لقد برهن الشباب المغربي أنه لا يقل وطنية عن سلفه من جيل ما بعد الاستقلال، وأنه جيل متشبع بقيم إنسانية نبيلة يعبر عنها بصيغ مختلفة عن صيغ أجيال الستينيات والسبعينيات، صيغ النضال السياسي في أطيافه التقدمية اليسارية، وبنفس الحماس والقوة انخرط مغاربة العالم في صنع هذه الملحمة الجديدة لشعب لا يقهر… كل من في عروقه دم مغربي، أين ما كان، ومتى كان، تذكر الأصل والأسلاف ونسي دون ذلك من جنسية مكتسبة أو جواز سفر آخر، وشد الرحال، محملا بما كسبت يداه، نحو جبال الأطلس الكبير.
المصاب جلل، والمأساة مروعة، والحزن كبير، كبير، كبير… ودموع المغاربة مثل دموع الأمير غالية، لكن الأمل في المستقبل أكبر، وإعادة الإعمار موكولة أولا لإرادتنا وتضامننا، فضلا عن دعم الدول والشعوب الصديقة لبلد لم يتوان أبدا في الدفاع عن قيم السلام والتسامح…. إنها روح ثورة الملك والشعب التي لا تزال وستظل سارية في عروق المغاربة جميعا مهما اختلفنا في الرأي والانتماء، وخاصمتنا السياسة والإديولوجيا وما إليها من أشكال التدافع والصراع…

الكاتب : عبد السلام رجواني - بتاريخ : 16/09/2023

التعليقات مغلقة.