انتظارات تنتظر وشعب على قارعة الطريق ينتظر غودو!
أحمد المديني
يصعب بالتحديد معرفة من تابع واشترك في الانتخابات المغربية الأخيرة بوجوهها الثلاثة، مع وجود إحصائية من وزارة الداخلية عن نسبة المصوتين، لا يعنيني الجدال في مصداقيتها. أفضل الحديث عن من اهتم، من غفل، ومن لم يبال، قط. يعنيني كذلك الانتباه لعديد المزايدين في كل شيء، طبّالين ونفارين غيّاطين وتنابل، أيضا، إما غير مسجلين بالأصل للتصويت، أو لأنه موسم ينبغي أن تُجنى خيراتُه ولا تفوت بركته. أما الأهم فعن رهان هذه (الاستحقاقات) كلها والجلبة السياسية العظيمة، كما مرت. ومن خصائص الحملات الانتخابية في أيّ بلد أن يكون لها شعارات وبلاغات ودُعاة ودعوات، يخيّل إليّ، عن بعد، بمتابعة محدودة من خلال السمعي البصري والمقروء، شأن الغالبية أظن، ما دام التباعد أصبح شرط تواصل، أن المغرب ما عرف انتخابات بالهرج والتدافع والعدد وعديد الوعود، كما جرى، تحسب المتبارين في سباق بين الوجود والعدم.
دعك من هذا، لنقل لتفسيره من المعلوم أن التواصلَ لغةٌ وخطاب وعلامات ورموز، وعند أهل السياسة قاموسٌ بمصطلحات ومفردات، يفترض أن تمتلئ بالمعنى ويحكمها الوضوح، لكي تصل الرسالة، وإلا فهي شقشقة وجعجعة بلا طحين. ولأمر ما لا يخفى على هؤلاء (عندنا) وجدناهم، لا أعلم اتفاقا جماعيا أم صدفة وضمنا، أم ربما إدراكاً منهم بما يحتاج إليه ناخبتهم، المواطنون الأعزاء، أفليسوا سيجلبون لهم المطر والخضرة ويفرشون السجاد؛ وجدناهم يستعملون، أولا، قاموسا متشابها، وجماعة منهم بالذات ممن تعِد بالجنة فوق الأرض توأما، كأنها اجتمعت ووضعته بالتضامن، فأعطى النتيجة التي نعرف تبرهن بالقطع على التشارك في ما تمّ حوله الاتفاق، وما ليس نسخة منه حدّ المطابقة هو وجه للشقاق، إذن ليس معه أرضية وفاق، وبصوت نبرته مستعارة يعلنون لا لقاء مع غيرنا، إنه الفراق! من الطريف أن تسمعهم يرطنون بمفردات دفعت الشعوب من أجلها جحافل أرواح وسيول دماء، من دون أن يَرِفّ لهم جفن أو يحمرّ (أو يسودّ) وجه من خجل، تسمعهم يمضغون ويفرقعون كالّلبان: الديموقراطية، التعدد والاختلاف. مزيان، بيد أن رؤوسهم تقترب صنيع فريق وسط الملعب حين الحاجة لحسم المبارة بركلات الترجيح ويهمس رئيس الفريق للاعبيه: اسمعوا ألدراري، الكلام بيننا فقط، لا للجميع ، وإذن، انتَ وأنتَ (وأنتِ) توزعوا بينكم الأدوار والكلمات.
دعك من هذا، لنقل لمزيد فهم، فإن الكلمة المفتاح، بها يظهر الجنّي ويقول شبّيك لبّيك، احزروا ما هي؟ طبعا، نحن لا نخترع شيئا، وبعضنا يظن أنه يخترع البارود أو العجلة، وينسى من سبقنا في هذا الاختراع بعشرات السنين، هم في غنى عن العجلة هي العياذ بالله من الشيطان. ليس أهم وأنفع من البطء، أو يوجد أبطأ من السلحفاة، وفي النهاية تصل، والشعب من طبيعته متعجّل (يتهامسون بينهم هكذا هم الغوغاء، الشعب أهوَج!) يريد أن تُلبّى جميع حاجاته هكذا بصفق أصبعين: الإبهام والوسطى، بينما نحن لم نستقل إلا في أمس قريب( 1956) ياه، بضع سنين، وبما أن الأمر كذلك، سنستعير من أصدقائنا الفرنسيين، وعندنا منهم هنا أشياع وأتباع أشبه بجالية، كلمة (Attente) (=انتظار)، كلمة مناسبة جدا لنوايانا، أقصد نوايا الضالعين في الانتخابات حدّ الفناء في الحديث عن منافحتهم عن قضايا الشعب، ممن يعتبرون أنهم الأقدر على تلبية (انتظاراته). لنسجل هنا ملاحظتين. أولاهما: أن كلمة انتظار فضفاضة مثل عباءة مغربية صحراوية تستوعب بمرادفاتها في لغة موليير المعاني التالية: (التخوف، التوقع، التطلع، الأجل، الأمل، الفُرجة، الاستراحة، الاحتمال..) وهذه موجودة فعلا عند المخاطِبين بدرجات، واستعمالُها يسعفهم إن أخطؤوا ولا يكلفهم مسؤولية، أن ما يريده الشعب بالتأويل انتظارات لا أكثر، لا ترقى إلى مقام حاجات، ضرورات، مثلا، هكذا يصبحون في حِلٍّ من التبعات. الملاحظة الثانية، أن استعمال فعل (لبّى) يضعهم في مرتبة عليا، لمن يملك الشيء ويَهَبُه أنّى وكيف ومتى يشاء، لذا يحق لنا، من وجه مقابل، أن نستنتج بأن القوم مالكون لكل شيء في وجه المحرومين من كل شيء، وهم ممتنعون عن العطاء، إلا إذا تطلع إليهم المغلوب على أمره، وسار في ركبهم يجرّ الأذيال، وعوّل عليهم دون سواهم لكسب الرزق واستدرار الرحمة كما يفعل مع رب العالمين، لا غرابة أن يعمدوا إلى توزيع الأموال وكسب الجياع بدجاجة. نحن نتجنى على هؤلاء (الجياع) إذ نتحدث ببلاغة عن شراء الذِّمم، هل للمعدِم، المحروم، المقهور ذِمّةٌ كالميسور والمكتفي، حاشا أن يُنازَع فيها، وكيف يُلام إن إليها افتقر، لأن الذّمة هي الكرامة التي ما فتئ يطلبها ملايين المغاربة والعرب وحيثما يعاني الإنسان من الاستبداد والحرمان. جعبة الكلمات ذات الدلالة الأخلاقية لها معنى استعلائي في فم الموسرين les nantis والمكتفين، بينا وقعُها جارحٌ في نفوس المحرومين les démunis. فليستحوا شي شوية ما فيها باس، كم أصبحوا وباءً، وقد شبعنا أوبئة، إنّا تكاثر علينا الهلكوت، أحياءٌ منا كالأموات، إما من ضمائرهم، بزور الألقاب والأسماء، أو آخرون من خواء أمعاء.
وبما أن الكذب ينتشر، يُعدي كالشائعة، فقد انتقلت عدواه من كثرة السماع في إعلام مُسَخّر ومعلّب يُلقى به للناس كأنهم ضِباع، لا تسل عن عدد المتفيهقين والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب، كي ينشروا رسالة الانتظار، ثم يسوّقوها، ثم سنراهم لاحقا، انتظروا، يتحولون إلى حبوب هضم، لغويين، وسيميائيين، وحجاجيين، وخردة من مديري المراكز الاستراتيجية للهُراء. نمنا وأصبحنا وإذ تلتقط ميكروفونات المواقع والمسامع والمضابع على شفاه الناس في الشوارع، وأحيانا حتى في المضاجع، كلمة واحدة، جوابا لمّا يُسألون عن رأيهم في الهرج والمرج فيجيبون وفي خاطرهم»متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» بإبدال مختصر: الإنتظارات!
وأما العبد لله، فإنني وبعد أن أَشكَل عليّ الأمر، أمقت الانتظار، تجده عند طبيب الإسنان، وطبيبة القلب، وقبيل إعلان نتيجة الامتحان، وإذا دُعيتَ لسبب لا تعلمه إلى الكوميسارية. وفي النهاية، قررتُ أن أُنهي العلاقة مع السّماجة، فعالمُنا مكتظٌ بالتعاسة حتى لا مزيد، لننقعه كي يصبح مستساغا بشوية ديال المزاح، كما يفعل التعساء، تعويضاً عن كبت، ولم لا العبث ابتغاءَ الشفاء. لذت بما سُمِّي» مسرح العبث» بينما هو جِدٌّ في جدّ، لا هزلٌ وتهريج كما كثيرٌ مما يُرى في البلد. كم تسمع من واحد أو دَعيٍّ يردد غيبا عبارة أنه، إنهم ينتظرون غودو، وقليلون قرؤوا نص» في انتظار غودو»(En attendant Godot) وتمعّنوا في مراميه، وفهموا القصد من غودو، صموئيل بيكيت، المؤلف نفسه (1906ـ1989) ضاع في تأويله، ومنذ أن صدرت المسرحية(1952 منشورات مينوي) وقد كتبت سنة 1948، وعُرضت للمرة الأولى في يناير 1953 وبطلاها إستراغون وفلاديمير ينتظران على قارعة طريق إلى جانب شجرة هشة الأغصان وصول شخص مجهول يدعى (غودو). لا يفعلان شيئا سوى أنهما يثرثران ويلولبان الكلام بينهما في ما لا معنى له، وهو المعنى، وهما ينتظران. لا يتغير الأمر حين يقتحم المشهد بوزو ولوكي، الأول شغله تعذيب الثاني فقط، يذهبان ويعود البطلان إلى سابق عهدهما بعد أن حضر طفل يعدهما أن غودو سيصل غدا، في الأخير يسأل الأول الثاني: ماذا نفعل الآن؟ فيجيبه: ننتظر غودو، فيستغرب الأول: صحيح؟ ويبقيان يراوحان في مكانهما ينظران في أفق الطريق، ويقولان هيا سنذهب، لكنهما لا يتحركان، «فبأيّ آلاء ربكما تكذبان»!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 29/09/2021