بأصوات متعددة .. إبحار
حسن برما
لا فكرة تليق ببحيرة اللقلاق، كل الأفكار مضطربة والبوصلة مجرد أداة معطوبة، الآن يتذكر أن اللقلاق اللعين المتسمر بنفس الوضعية هو السبب، أغرته وقفة التمثال الآمن، عجز عن مقاومة الرغبة في الإبحار، تجاوز احتراس العميان، وبحماس غامض ركب الماء دون التزود بشقاء السؤال .
تابع غيمة منكمشة بتشكيل سوريالي تمشي عكس السحب الممددة في استرخاء ممل، بدت رمادية حزينة تركض في السماء كما لو كانت على عجلة من أمرها، وراءها غيمة أصغر تقتفي أثرها وتلهث ، وهما معا يتجهان حيث يعيش الوحش الشرير وينتظر.
اختلطت عليه الاتجاهات، أسقط في يديه، لا مجداف في اليد، لا قارب يتحمل غصات الشك المؤلمة، كل ما في الأمر، عجز مرعب يشل الأطراف، يعلن قرب النهاية، والذاكرة لم تعد تحتفظ سوى بآيات الحرمان وحكمة المستعجل على عمره .
في غمرة التلف وتعب العشي المرصود، نسي تفاصيل البداية ومتى اتخذ قرار الإبحار، تأمل الفراخ المتصالحة مع قدرها وهي تقصد ضفة الأطلس المهجورة، مويجات تراقص بعضها البعض، دوائر متشابكة تسمح بعناق الماء للماء ، ودون مقدمات معلومة، وجد نفسه يركب القارب العطلان، يطارد شاعرية الغروب وجنيات المفاجآت الغريبة، وفي جمجمته الصلبة استوطن سلطان الخرافة العجيب.
لم يبق قريبا من اليابسة كما تدعو إلى ذلك قوانين الملاحة والحكمة البحرية المأثورة، استسلم لخدر التوغل في الموج المتربص، أذعن لنشوة الإبحار في بحيرة اللقلاق الغامض ، مزقت حركات المجداف التلقائية صفحة الماء، داهمته نوبة شرود مزمن، تخيل جنية نجت من الموت بأعجوبة، أستيقظ من حلمه البدائي، انتبه إلى ابتعاده عن نواح الأشجار الحزينة وأعشاب الأرض المهملة، وأيقن أنه تعلق بسراب ثعباني وتورط فيما لا يفهمه ولا يدريه.
انصاع القارب لتيارات التيه، كلما دنا من ضوء النجاة فرَّت حشرة الوهم للمجهول، قال: «لا ترفع في وجهي يافطة المستحيل، أصلا، أندم لو دققت النظر في سراب الأفق».
وفيما يشبه اللوم، تناهى إلى سمعه حوار الإدانة:
ــ لماذا ركبت القارب في الوقت الفائض؟
ــ احتجت الإبحار فوق مويجات الغروب .
ــ ألم تخبرك الريح المسعورة عن فقدان المجداف؟
ــ لم أر سوى زبد الشاطئ المخادع.
اختفت أشجار التين المتوحشة، صارت الشجرة التي تخفي الغابة في حكم العدم ، ضاع المجداف، استحال صوت ارتطام الماء بالقارب إلى تهديد مرعب لا يطاق ، ودقائق الانتظار اليائس في عمر قرون طويلة تجعل الإيمان بالإفلات من الغرق في مثل هذه الظروف العصيبة مجرد أمل كاذب وبلادة.
غابت الشمس المتعبة، طار اللقلاق القلق لعشه فوق الصومعة المتآكلة والحيطان المهترئة ، وفي حكم المؤكد ، اختفت كائنات البحيرة المنذورة لشقاء النهار ، ولا أحد يعول عليه ليلا لضمان الإفلات من احتمالات الغرق.
ومع هيمنة الظلمة والاقتناع باستحالة ظهور المنقذ المنتظر، تجاوز مرحلة الخوف من الغرق، فكر بهدوء أسطوري في هوية الخواء الشامل، مضى زمن المعجزات مع قطعان الدروب المتربة، والهروب من الاختناق أمر مستحيل، والمستحيل ورقة ذابلة ماتت وسقطت في بئر المصائر اللعينة ودنست ماء الحياة، وما عليه سوى انتظار النهاية المحتومة بحياد غبي مريح.
جلس القرفصاء في جوف القارب التائه، تذكر محطات فرح قليلة وخيبات متعاقبة، ابتسم وخاطب نفسه بصوت مسموع، قال، ورغم ذلك، لا هزيمة في الحياة، هكذا ردد تلك الجملة المحبوبة لدى المعلم الأول ، وملأ يقين الخواء باستعادة تشكيل فراشة أسطورية جاءته من حيث لا يحتسب.
الكاتب : حسن برما - بتاريخ : 16/05/2017