بأصوات متعددة : الحقيقة الريفية بين جرمان عياش وروبير مونتين

لحسن العسبي

تطرح تطورات ما أصبح يعرف إعلاميا، ب «الحراك الريفي»، أسئلة واجبة جديدة على المشهد الثقافي والفكري (قبل السياسي) بالمغرب. ذلك، أنها عنوان لإغراء تأملي حول معنى التحولات السوسيولوجية والسلوكية عند المغربي اليوم، في أول القرن 21. أي عن الكيفية التي أصبح يتمثل بها الفرد المغربي ذاته ومحيطه، وعلاقته الوجدانية والمعرفية والهوياتية بذاكرته وتاريخه.
الحقيقة، إن ما يعتمل من تعابير في منطقة الريف بالمغرب، ليس سوى تعبير عن تحولات جيلية، وسلوكية جديدة ببلادنا، تترجم معنى جديدا للفرد المواطن مغربيا، متأسس على واقع للتعدد اللغوي والثقافي والمجالي. مما يفرض إعادة قراءة مختلفة لواقع هذا الفرد، بما يتوافق وما تراكم من تطورات وطنية وعالمية. لأنه علينا الإنتباه، إلى أن وسائط التربية العمومية التقليدية (المدرسة، العائلة، الشارع)، قد طالها تبدل، في زمن الطرق السيارة لإنتاج المعرفة والتواصل، وأن آلية التربية العمومية والسلوكية للفرد، أصبحت تصنعها مجالات جديدة للتواصل مسنودة بيسر تواصلي ومعرفي وهبته تكنولوجيا الإتصالات. فلم يعد الأب والأم هما حجر الزاوية في التربية، بل ثقافة الصورة عبر الويب.
بالتالي، فإن التحولات الإجتماعية الجديدة، هذه، تلزم الذكاء المعرفي والأكاديمي لمنتجي المعرفة والفكر بالمغرب، بركوب تحدي إعادة قراءة وموضعة كل هذه التحولات ضمن سياقها التأويلي المفسر للوقائع، والمحدد لمنهجيات الفهم، والمقدم للأجوبة على كل أسئلة القلق التي تواجه كل صاحب قرار سياسي. وبالعودة إلى القصة الريفية بالمغرب، فإنه لا يمكن فهم طبيعة الذهنية السلوكية للمغاربة الريفيين، بدون تمثل دقيق للقصة التاريخية لهم ضمن السياق الوطني المغربي العام. استنادا على ما تسعف به كل الوثائق والدراسات التاريخية العديدة، المسجلة لتلك القصة المغربية للريف. ولعل من أهمها، كتابات مؤرخ مغربي رصين مثل المرحوم جرمان عياش، وكذا كتابات المؤرخ المغربي الراحل محمد زنيبر، وكتابات المؤرخ التطواني الفقيه داوود، وكتابات المؤرخ محمد المنوني، ثم كتابات الفقيه العلامة عبد الله كنون. فهي تضم جميعها قراءة نقدية تحليلية للحقيقة التاريخية للمجتمع المغربي، وضمنها جميعها تفاصيل مدققة حول تاريخ المجموعة المغربية الريفية.
إنه لا يمكن فهم، قصة الريف المغربي، في الواقع، دون تمثل لمعطى تاريخي أشمل وأكبر وأهم، حكم مسار كل الدولة المغربية منذ 4 قرون. هو مغادرة الفاعل السياسي المغربي على مستوى القرار السيادي للدولة المركزية، وعلى مستوى المجتمع بالإستتباع، لعمقه المتوسطي. كان ذلك خطأ تاريخيا استراتيجيا قاتلا لقوة الورقة المغربية كدولة في منظومة العلاقات الدولية. لأنه أفقدنا إلى الأبد قوة الورقة التي ظلت دوما سند ألق الإمبراطورية المغربية منذ القرن 10 حتى القرن 15، المتمثل في التحكم في الطريق التجارية بين المتوسط وأروبا والعمق الصحراوي لإفريقيا الغربية، وصولا حتى تمبوكتو بالسودان الغربي (مالي الحالية) وخليج مملكة غانا القديمة. لأنه حين أدرنا ظهرنا للبحر الأبيض المتوسط، قد خرجنا من التاريخ ومن منظومة النظام العالمي الجديد الذي تبلور منذ الثورة البورجوازية بأروبا في بدايات القرن 15. مما كانت نتيجته وقوع الريف المغربي، ضمن منطق لليتم الإقتصادي والتجاري، بكل ما ولده على مدى قرون من مواجهات من أجل أسباب العيش مع ذلك النظام العالمي الجديد. والذي لم يكن متأسسا سوى على التهريب وعلى القرصنة.
لأنه حين انتقل الثقل التجاري المغربي على مستوى الدولة المركزية، منذ عهد السعديين، صوب موانئ المحيط الأطلسي (خاصة عبر العرائش وطنجة والرباط والجديدة وآسفي وأكثر عبر الصويرة ابتداء من القرن 17)، فإن كل منطقة الشمال المغربي من سجلماسة صعودا حتى وجدة وصولا حتى تطوان، قد دخل في مرحلة للفقر والإقصاء وميلاد تدبير الندرة، بعد أن كان لقرون هو المجال المثالي للثروة التجارية للإمبراطورية المغربية. بكل ما ولده ذلك، من بنية تدبيرية وتنظيمية اجتماعية جديدة، لعبت اللغة الأمازيغية (في ما يرتبط بالجزء الريفي من كل ذلك الشمال المغربي) الدور في تجسير الرابطة الثقافية سلوكيا بين أهلنا بالريف، وجعلهم يراكمون ما وصفه المؤرخ المغربي جرمان عياش ب «المجتمع الريفي». لكنه مجتمع، تميز بخصلة هامة حاسمة، هي أنه لم يتخلى أبدا عن هويته المغربية كانتماء. وهنا فالأدلة من الكثرة والغنى، على مستوى تأدية الضرائب للخزينة العامة للسلاطين في فاس أو مراكش، وكذا في المشاركة العسكرية ضمن جيوش السلاطين، ما لا يعد ولا يحصى، منذ القرن 15 حتى القرن 20.
لقد حاولت بعض الدراسات الإثنوغرافية والسوسيولوجية الإستعمارية، سواء في شقها الإسباني أو الفرنسي، أن توظف تلك الحقيقة التاريخية الريفية بما يخدم أجنداتها الإستعمارية، من خلال السعي لبلورة صورة غير واقعية تماما للعنف في الريف وللعصيان بها. وهو ما سعت إليه عشرات الدراسات الإستعمارية الإسبانية (مولييراس كمثال) وأيضا الدراسة الدقيقة أكاديميا، لكن ذات الخلاصات السياسية الخطيرة، التي أنجزها الفرنسي روبير مونتين في كتابه الأشهر «البربر والمخزن».
يخشى، أن ما تبقى في الذاكرة التواصلية هو هذه الخطة المعرفية الإستعمارية، بينما الحقيقة التاريخية كما بلورتها مدرسة التاريخ المغربي التي هي على النقيض من ذلك، قد علاها غبار النسيان. من هنا إلحاحية تأسيس «معهد للدراسات الريفية» بمدينة الحسيمة، ضمن نواة جامعية مستعجلة، للإستجابة لواحدة من مطالب أهلنا بالريف اليوم. لأنها الترياق لمصالحة المغاربة مع الحقيقة الريفية، وأيضا لتجسير ومصالحة الريفيين مع الحقيقة الوطنية المغربية، التي ظلوا دوما من أكبر المدافعين عنها تاريخيا.

الكاتب : لحسن العسبي - بتاريخ : 22/05/2017