بأصوات متعددة .. حديث يتكرر

عبد الحكيم الزاوي
مع إطلالة كل موسم دراسي جديد، تعزف سمفونية البداية، تشد الحقائب، تربط المآزر تشحد الهمم، تتعالى الأصوات، الكل يتحدث عن التغيير، الكل يترقب الجديد، الكل يهيم في رؤية مدرسة عمومية جديدة ومغايرة، الكل يمني النفس بما قد يأتي وبما قد لا يأتي، لكن وحدهم القدامى يتوارون إلى الخلف، يتركون الجدد يرددون أغنية الربيع الجديد لغاريتا غاربو في شوارع مانشستر الباردة، وحدهم من يستضمرون معنى الإصلاح؟ آه، ذلك المفهوم الهلامي الذي يمتطيه الجميع سرا وعلانية، يأمل الجميع في ترويضه وتدجينه، من يتذكر قصة الإصلاح الحسني بمغرب القرن التاسع عشر سيعي من داخل التاريخ أن الإصلاح خاصمنا إلى يوم يبعثون، وأن أضعنا فرصة اللقاء مع التاريخ غير ما مرة.
طيب، وأنت تستقصي تفاعلات آل الاختصاص بخصوص ما استجد، تجس نبضهم، تصيبك أجوبتهم بالغثيان، قد تقول إن المنطق السليم فارق العقول، أجوبة وتمثلات جاهزة لكل زمان ومكان، نظرية المؤامرة تشتم من فوق، الدولة والوزارة توضع في قفص الاتهام، تهم جاهزة للنطق بالمحاكمة، خطاب معد سلفا لا يحتاج إلى غير قليل من تعديل أو انتقاء، بالمناسبة، سبق لي مؤخرا أن قرأت تقريرا لمجلة فرنسية طرحت سؤالا جديرا بالمدراسة والاهتمام، لماذا يرفض المغاربة التغيير؟ هو عينه السؤال الذي سبق وأن طرحه عبد الله العروي في ذات سياق راهني، من يجيب عن هذا الإشكال سيجد مخرجا لعديد من نكساتنا ومطباتنا.
من يستحضر تجارب الإصلاح التي مرت منها المدرسة العمومية منذ فجر الاستقلال، سينتهي به المطاف إلى الاستسلام بمنطق تاريخاني لمقولة أساسية، خطاب الأزمة خطاب محايث لتجربتنا المدرسية، يعاد إنتاجه في كل سياق وحين، فقط تتغير المعطيات والسياقات والفاعلون.
إصلاح المدرسة العمومية مطلب مجتمعي وحضاري لبلد يبدو أنه مل من كل وصفات التجريب التجميل، ومن لم يحسم بعد مع مشروعه المجتمعي واختياراته التربوية، مخططات وبرامج، مناهج ومقاربات، هندسة وبيداغوجيات، حتى وكأني به صرنا أمام ورش اصلاحي غير منتهي الصلاحية منذ زمن الحماية إلى الآن.
في العمق، مدرستنا المغربية عليها أن تناقش أسئلة عميقة، بجرأة أعمق، عليها أن تنخرط في مواكبة اليومي الذي صار سالبا لإرادتها في التغيير، عليها أن تؤسس لميثاق عمل جديد يقطع مع ترسبات العقل الجمعي، ويؤسس لمدرسة منتجة بقيمها وسلوكياتها، مدرسة تنخرط بعمق في صخب السجالات الفكرية والمجتمعية والاديولوجية، مدرسة تراهن عن صناعة الانسان الفرد لا على النتائج المفبركة، التي تعطي الانطباع بثقافة العام زين، مدرسة تكون هي القاطرة، رجالها محاطون بالاحترام والود اللازمين، ومتعلموها يغمرهم حماس المعرفة وعطش التعلم، وأسرة تسثمر في التعليم لتحقيق الارتقاء الاجتماعي نحو الفوق.
عودة إلى الواقع، بعيدا عن الأماني التي صارت لا ترسو فوق جغرافية المغرب، ماذا ننتظر من مدرسة عمومية صارت مصادرة في وسائل اشتغالها من طرف وسائط أكثر تطورا؟ ماذا ننتظر من مدرسة ما يزال فيها التعليم نصيًا يحتل فيه الكتاب المقرر مكانة قدسية، ولا يقوم المعلم فيه إلا بدور الكاهن الذي يحض سامعيه على الإلتزام بكل حرف في الكتاب بتعبير فؤاد زكريا.
وحتى نرفع شيئا من تفاؤل، تذكروا يا سادة، على هامش الدخول المدرسي، ثمة ضوء ينبلج من عتمة الإحباط، شموع تحترق من أجل أن تضيء جهل الآخرين، أشخاص يأملون في التغيير من قلب المعرفة، من داخل المجتمع، يمنون النفس بأن ترسو سفينة التنمية على شط الأمان، وبأن الاستثمار الحقيقي يتحقق بصناعة الإنسان، البشر قبل الحجر، في زمن باتت وسائل الاشتغال مصادرة ومتجاوزة في ضبط تواثبات اليومي المفعم بالتراجيديات، وكأن القدر التاريخي ذاك الذي يحلو للعروي أن يغازله في كل كتاباته التاريخية، يضعنا نجتر خيباتنا المتواترة، إلى كل هؤلاء وأولئك ترفع القبعات إجلالاً واحتراما لكل من آمن بأن رسالة التنوير أعز ما يطلب في الوجود، فليس على هذه الأرض ما يشفع بالبقاء غير نبل الرسالة.
الكاتب : عبد الحكيم الزاوي - بتاريخ : 14/09/2017