بأصوات متعددة … ديوان التهافت

حسن برما

انتفضت الخنساء في قبرها وبكت نازك الملائكة في لحدها حين ادعت صاحبة الحجاب كتابة الشعر الحر ، صعدت منصة الشعر في قفطان « مزركش « ، أضاءت شاشة الهاتف الذكي وقرأت بدلال قصيدة عمودية مسكونة بالعطش للفراش وقبلة مسروقة بلا نباح .
ركبت موجة السلف غير الصالح ، كتمت جهلها المبين وحقدها الموروث ، عادت حتمية التاريخ، انتصرت لقصيدة مرتدة موغلة في الصدأ ، تحدثت عن الشعر الجرئ والنظم الجبان وكل رأسمالها نقد رنَّان ومعجم ميت وقُبَلٌ مشاع لا تطرب سوى سائقها الأعمى .
والمسكينة لم تدر أن الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة ، وأن جوهر الشعر المرادف للحياة موسوم بالتمرد والثورة والاصطفاف في صف المنبوذين المظلومين المقهورين وفاءً لانتماء مقدس وانحياز لا مشروط .
ومع آهات الحرمان وآيات الكبت المفضوحة اعتبرتْ الديوان مجرد حديث وسادة باردة ونسيَتْ أن الشعر حياة موغلة في العناد والتمنع على من يجهلون حرقة البوح المدمر وغرائبية الحلم المشتهاة .
في ديوان التهافت ، وجدتها مؤمنة بشكل مثير للتقزز بما خطته يمناها من هلوسات عاطفية عنيفة رهينة بحالات العطش الجنسي والحرمان السريري ، تكومت بعد منتصف الليل وحيدة في فراشها البارد مع ذكريات شحيحة عما كان يجب أن يقع ، بتقليد مضحك واقتفاء كسول للقصيدة النزارية المعلومة تقرأ مقاطع من سيرة الرعشة المقموعة ، وبعد ذلك .. لا بأس من شرح الواضحات المفضحات .
ورأيت الآخر يسوي الميكروفون ، يمسح بيمناه شعيرات لحيته الجرباء ، يبسمل ويحوقل ، يشرع في ترديد جمل جاهزة مسجوعة ، جميل مسروفة من مقبرة الخنوع وذل الانصياع ، أدعية واستيهامات وأضغاث أحلام مشدودة لبرود الحوريات الطيعات وجليد الدمى الصينية المنتظرة بجنات ما بعد الموت ، وبعدها ألقى نصا يدعي الانتساب لجزيرة الشعر والجنون المبدع ، « قصيدة « موجهة بآلة التحكم عن بعد ، أقوال مسروفقة من فقه النكاح و القضيب المعطوب ، ضربت كفا بكف ، وتمنيت لو كان بجانبي ولد دربي المبدع الفقيد « عبد الله راجع « لأسمع رأيه فيما نسمع ، واستسلمت لضحكة استنكار مكتوم .
ضحكوا عليه ، نصبوا له خيمة عرس مثقوبة ، ألبسوه سلهاما أبيض ، أركبوه حصانا أجرب ، أحاطوا به فرقة مبتدئة من الدقايقية ، طافت به نسوة متشاعرات لا يفقهن شيئا في الشعر ولا يفرقن بين الألف وبين الزرواطة ، زغردت مقطوعات اللسان ، انتشى العريس بوهمه الجبان ، وأمام الميكروفون ، أطلق العنان لسيل من الحاءات المكبوتة ، صار الشعر المتقاعد مرادفا لخواطر ساذجة في موضوع الكبت والجوع وأعطاب القضبان المنتصبة ، وانتشرت وسط الحضور همهمات استنكار وضحكات استهزاء .
ولكن يا هذا .. اللي تلف يشد الأرض .. إن شئت الإبداع والتأسيس والريادة، لا تأت الشعر دون ذاكرة مرجعية ورؤية مشاكسة ، لا تدع القصيدة تحضنك وأنت تقتفي آثار النابغة الذبياني في مفاضلاته المضحكة أو نزار قباني في بياناته الموغلة في المباشر المعلوم ، ولا تطاوع نزوة اشتهاء عابرة لمتخيل ساذج يكرس جبنا حقيرا في مواجهة المستحيل ، فالشعر عادة يكره اللعب المجاني المحايد بالكلمات!
كيف تزعم الاقتراب من جزيرة الشعر المتحررة من قيود الواجب والثابت والمقدس ؟! كيف تدَّعي الانتساب لدائرة الشعراء وأنت تختار السفر في طريق سيار تحكمه قوانين سير وضعت لقوافل إبل تحمل ملح العفاريت للعشائر التائهة في صحارى الخرافة ؟! كيف تقترف ما يسمى شعرا وأنت تسبح في مستنقع الجاهز المتواطئ مع لحى تعادي الجنون وحجاب عفة مهادن لفقه القبر المجهول ؟!! وبعبارة أكثر دقة : هل أنت شاعر أصلا حتى تطلينا من مستنقع الميت الفاني بسجع كهنة صقيعي الروح والمنطق ؟!!!

الكاتب : حسن برما - بتاريخ : 18/04/2017