بأصوات متعددة : نقد دون رصيد

حسن برما
ما زلت أتذكر صرخة/سخرية القاص الفقيد مصطفى المسناوي حين كتب بداية تسعينيات القرن الميت مقالة عنونها بــ «النقد الجديد .. إلى أين ؟» تناول فيها أقلاما «ناقدة» توهمت قدرتها على ولوج مختبر التشريح الأدبي وحمل سكين بروست اللئيم لإجراء عمليات جراحية فاشلة على نصوص إبداعية عصية على النقد المأجور ، اكتفت بتقيؤ مجموعة من المفاهيم والمصطلحات المثيرة للسخرية والشفقة في الآن ، استعرضت بنوع من التباهي الصبياني والفرح الساذج مناهج تحليلية هولندية وبلغارية وواقواقية في طور التأسيس والتكوين .. الآن فقط صرت مقتنعا تمام الاقتناع بدواعي سخريته الفاضحة واستغرابه الممزوج بمرارة خفية من قراءات ولدت عرجاء في مهدها ولم تنتبه للعطب في الوقت المناسب .
النقد الأدبي تنظيرا وتطبيقا ممارسة تشتغل وفق تصور فكري / فلسفي ولغوي يروم تثوير فعل الخلق ، هو قراءة متمكنة محكومة برؤية فنية وجمالية تنتصر لإبداع يحترم وظيفته والشهادة النبيلة المنحازة لقيمة الحرية وما يحقق للإنسان إنسانيته المفترضة.
طبعا هي ممارسة ثقافية واعية تستلزم الموهبة والدراسة ، تقرأ ، تفكك ، تحلل ، تفسر وتصنف ، ولتحقيق هذه الأهداف ، تمتح أدواتها من حقول معرفية متنوعة تتقاطع كلها في محاولة فهم العمل الفني كإبداع مشاكس وخلق فني يستعصي على القولبة المتسرعة والرغبة المريبة في تدجين إنتاجاته المتمردة .
من حظ الأدب السبعيني والثمانيني الرائد أنه حظي بمتابعات نقدية نشيطة راهنت بدورها على شغب الكلمة الخلاقة ودورها في تغيير العقليات ، دخلت حلبة الصراع المتعدد الأوجه من بابها الواسع ، وأنجزت قراءات عاشقة ومقاربات نقدية ساهمت دون البحث عن مقابل مادي في إثارة الانتباه لتميز الأدب المغربي المعاصر وأسئلته القلقة الحارقة .
بإلإضافة إلى الأساتذة الباحثين والنقاد كأحمد اليبوري وسعيد يقطين وعبد الرحمان طنكول تمثيلا لا حصرا ، لن نتجنى و نجازف إذا قلنا أن أغلب ما كتب في النقد الادبي والأكثر نضجا كان بأقلام هي في الأصل مبدعة زاوجت بين الخلق الفني شعرا وقصة ورواية ، وبين القراءات النقدية الواعية بأسسها ورؤاها ومناهجها مثل المجاطي ــ السرغيني ــ برادة ــ راجع ــ بنيس ــ لمودن ــ عز الدين التازي ــ المديني ــ بوزفور وآخرون محليا مثلما كان الحال مشرقيا مع نازك الملائكة والبياتي وأدونيس وسليم بركات وإلياس خوري وغيرهم .
وفي وقتنا الموبوء ، يحتكم الناقد الجديد في مقالاته السائبة لمنهجية إنشائية تبعدنا عن العمل الأدبي أكثر مما تفتح مغاليقه ، يضيع نصف الكلام في استعراض مجاني لمجموعة من المفاهيم والمصطلحات قصد إعطاء انطباع خادع بامتلاك ناصية نظرية نقدية ما زال صاحبها الأصلي يبحث عن سبيل للاقتناع بجدواها ، دون نسيان آفة التباهي بمعرفة مثيرة للسخرية واصطلاحات كثيرة مقرونة بذكر ترجمتها بالفرنسية أو الانجليزية أو الروسية ، مما يجعل مجهوده تائها في تحديد المفاهيم وهوس التظاهر بالعمق المعرفي المفتقد .
وهناك أصناف من « النقدة « ( على وزن الكتبة ) تخصصوا في إنجاز قراءات انتهازية حول كتب أساتذة أشرفوا على إنجاز بحوثهم الجامعية ، حيث أن سكاكينهم الجراحية لا تعمل سوى مع من يمنحونهم شواهد تفتح لهم باب « الرزق المادي» وتسمح لهم بتحسين رواتبهم ، وبعدها يدخلون في بيات شتوي يقترب من الموت النقدي لدرجة تدعو للامتعاض ، وعليه يتبخر جيش عرمرم من خريجي الشعب الأدبية والنقد بسرعة البرق والقليل ممن ما زالت بأجسادهم ارتعاشات التحليل والتفكيك والتقييم تتحرك أقلامهم الصدئة المليئة بمداد الحياد والتزلف لقراءة أسماء بعينها لأساتذة يدعونهم لندوات مغلقة ومناظرات محروسة مؤدى عنها بالعملة الصعبة .. وليذهب الإبداع المغربي إلى الجحيم .
والمحصلة أننا نجد أنفسنا أمام محاولات عرجاء تنسى أن الكتابة أساسا هي لعبة مجنونة بالحلم والمستحيل والواجب والممكن ، قوانينها لا تحترم القوانين ، الحب فيها سبب والرحيل غاية ، شرودها أعزُّ ما يشتهى ، سحرها متعة ، تمردها طبع .. لعبة عجائبية حتى وهي جدية أكثر من اللزوم .
الكاتب : حسن برما - بتاريخ : 09/05/2017