بالصدى : حلقة «التوحديين» المفقودين ..

وحيد مبارك

تشبث بالشيء، إصرار على الفعل، عناد، صراخ وتعنت شديد…، سلوكات «مزعجة»، تصدر عن عدد من الأطفال، التي لاتجد قبولا عند الكبار، التي يرفضونها ويعتبرونها تندرج ضمن خانة «قلّة التربية»، وقد تواجه من طرف بعض الآباء والأمهات بصراخ مماثل، بالزجر وبالعنف، دون أن يمنحوا أنفسهم مهلة للتفكير، من أجل فهم طبيعة هذه الأفعال التي تصدر عن فلذات أكبادهم، هل هي طبيعية أم يمكن إدراجها ضمن خانة أخرى،حتى يتم التعامل معها تعاملا سليما، يسهم في فهم الدوافع والغايات للوصول إلى الخلاصات الحقيقية؟
عدد كبير من الأشخاص، شاهدوا الفيلم المتميز «حلقة الشعراء المفقودين»، الذي أسر عقول وعواطف العديدين في مرحلة مختلفة من مراحل العمر، والأكيد أن هناك عددا من المشاهد التي ظلت عالقة بذاكرة هذا أو ذاك، ومن بينها المشهد الذي طلب خلاله الأستاذ من تلامذته الصعود فوق الطاولة لرؤية المحيط بنظرة أخرى، الأكيد هي تختلف عن تلك التي ترافق الوضع العادي. هذه النظرة هي التي نحن في حاجة لها، من أجل فهم مايحسّه، مايعيشه، الطفل التوحدي في مجتمع لايزال يجهل طبيعة هذا المرض، غير ملمّ بتفاصيله، ليس فقط في صفوف المواطنين العاديين، وإنما حتى بالنسبة لعدد كبير من الأطباء، الذين أخطأ عدد منهم التشخيص مرارا وتسببوا للمرضى في انتكاسات وتبعات صحية وخيمة، وعرَّضوهم لتدخلات جراحية هم في غنى عنها على مستوى السمع وغيره، مما جعل المرض يكون مرفوقا بهالات كثيرة، وبالعديد من الفراغات السوداء، التي انعكست ولاتزال على يوميات المرضى، خاصة في ظل افتقاد وزارة الصحة لبرنامج وطني على غرار برامج وطنية أخرى تهتم بمرض من الأمراض، الذين عوض أن تتم مصاحبتهم وأن تتضافر الجهود لتسهيل اندماجهم في الحياة، يعيشون وأسرهم التيه والضياع والكثير من التبعات المأساوية.
نحن اليوم في حاجة إلى الفعل المتمثل في الانتقال من وضعية إلى أخرى، فعل يمنح فسحة لاستيعاب مايحيط بنا، خاصة بالنسبة لهذا المرض الذي يظل مبهما، غامضا، ينظر إليه عدد كبير من الأشخاص بكثير من الاستغراب، الخوف وحتى الازدراء. مرض تبذل مجهودات متعددة في دول أخرى لتسليط الضوء عليه، وتمكين الأهالي والمسؤولين من فهم طبيعته، بل إنه شكّل تيمة أشرطة سينمائية متعددة، حقّقت الكثير من النجاحات، كما هو الحال بالنسبة للفيلم الأمريكي «رجل المطر» من بطولة «دستين هوفمان» و «طوم كروز»، الذي حصل على أربع جوائز للأوسكار، والفيلم الهندي «إسمي خان» للنجم «شاروخان»، والفيلم الأمريكي «ميركيري ريزينغ» من بطولة الممثل الأمريكي «بروس ويليس»، الذي يبرز وبشكل جليّ قدرات وذكاء الطفل التوحدي، خلافا للصورة التي يراها به البعض، الذين يخجلون من أن يكون فردا من أفراد أسرتهم توحديا، فيقررون سجنه مدى الحياة؟
إن أصعب مايصطدم به التوحدي والآباء، الذين يتفهّمون مرض ابنهم، ويقررون عدم التخلي عنه ويتشبثون بتماسك أسرتهم، خلافا لآخرين يبادرون بتطليق الأمهات متى تأكدوا من المرض، معتبرين أنهن السبب في هذه الولادة بتلك الكيفية، وهناك الكثير من القصص المؤلمة في هذا الباب، هي تلك النظرة المتعالية، غير السويّة، الظالمة، التي ترى في التوحدي شخصا غير طبيعي، وتحاول أن تفرض عليه رؤية الأشياء، كما يراها الآخرون، لأن أصحابها لايدركون أن الحركات الصادرة عنه، التي لانستطيع فهمها ولاتعجبنا وتزعجنا كالضرب على الطاولة، إنما هي تصرفات الهدف منها إثارة الانتباه لأمر ما، وإلى حاجة من الحاجيات، التي لانوليها عناية، بما أن التفكير يبقى مقتصرا على الإزعاج في حد ذاته وليس أمرا آخر، مع العلم أنه تأتي لحظات على المصاب بالتوحد يفكر خلالها تفكيرا يفوق الإنسان العادي، يجعل منه نابغة في عدد من الحالات.
إكراهات يعيشها المصاب وأسرته هي بالجملة، تنطلق من تشخيص المرض الذي يعرف تعثرا ويمتد لسنوات، وفي هذا الإطار تقول إحدى الأمهات « في اليوم الذي أخبرني الطبيب بأن ابنتي مصابة بالتوحد، أجبت بأن الطبيب أحمق، وأضعنا بعدها 3 سنوات لمعرفة إن كانت حقا مصابة بالتوحد أم لا، لننتقل إلى محطة أخرى تتعلق بتلقينها كيفية التعامل مع مرافق المنزل من استعمال المرحاض، تنظيف الأسنان بالفرشاة، إنارة الأضواء وإطفائها»، مضيفة « لكي تعرف إبنتي أباها ولايأخذها منا أحد يوما ما، استعنت بسكان الحي كلّهم لكي يعينونني». تصريح يسلط الضوء على مشهد من مجموعة مشاهد وحالات، يعيشها التوحدي وأسرته على مدى ساعات اليوم، والتي تؤكد بأنها ساعات عصيبة ليست هيّنة، يتعاظم ثقلها بالتقدم في العمر سنة تلو أخرى، ويصبح الأمر أكثر صعوبة خلال فترة البلوغ، خاصة بالنسبة للإناث، إذ يتطلب الأمر تعويدهم عليها والتعامل مع التغييرات الفسيولوجية مبكرا، مخافة وقوع ما لايحمد عقباه، حتى لاتنضاف أعباء أخرى على عبء المرض وحلقاته الأخرى التي يبقى الكثير منها مفقودا !

الكاتب : وحيد مبارك - بتاريخ : 05/04/2018