بالمباشر : أم‭ ‬ريان‮:‬‭ ‬ لن‭ ‬أذهب‭ ‬للملعب‭ ‬مجددا‮..‬أبدا‮!‬‭ ‬

عزيز بلبودالي

 
لم‭ ‬تكن‭ ‬كعادتها‭ ‬ككل‭ ‬صباح،‭ ‬ونحن‭ ‬نلتقي‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬العمل،‭ ‬مبتسمة‭ ‬مرحة‭ ‬تثير‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬متحمسة‭ ‬للعمل،‭ ‬تنشر‭ ‬أجواء‭ ‬التفاؤل‭ ‬والود‭ ‬وسط‭ ‬الزملاء‭ ‬والعاملين‮.‬‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬غير‭ ‬من‭ ‬ملامحها‭ ‬المألوفة،‭ ‬بدت‭ ‬غير‭ ‬عادية،‭ ‬مقطبة‭ ‬الحاجبين،‭ ‬منفعلة‭ ‬وغاضبة،‭ ‬انتظرت‭ ‬منها‭ ‬تحية‭ ‬الصباح،‭ ‬ولما‭ ‬لم‭ ‬تلقها،‭ ‬بادرت‭ ‬إلى‭ ‬إلقائها‮..‬‭ ‬ردت‭ ‬بطريقة‭ ‬لم‭ ‬أعتدها‭ ‬من‭ ‬طرفها‮..‬‭ ‬سألتها‮:‬‭ ‬مالي‭ ‬أراك‭ ‬متجهمة؟‭ ‬فانطلقت‭ ‬تشرح‭ ‬وتوضح‭ ‬بغير‭ ‬هدوء،‭ ‬وكأنها‭ ‬ترافع‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬تطالب‭ ‬فيها‭ ‬برد‭ ‬الاعتبار‭ ‬والقصاص‭ ‬من‭ ‬الظالم‮.‬‭ ‬قالت‭:‬
‭» ‬من‭ ‬اليوم،‭ ‬لن‭ ‬أقرأ‭ ‬مقالاتكم‭ ‬حول‭ ‬الرياضة‮..‬‭ ‬من‭ ‬اليوم،‭ ‬لن‭ ‬أثق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تكتبونه،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تنادون‭ ‬به‭ ‬وأنتم‭ ‬تبحثون‭ ‬عن‭ ‬تحفيز‭ ‬الجمهور‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬ملاعب‭ ‬الكرة‮..‬‭ ‬مالي‭ ‬أنا‭ ‬ومباريات‭ ‬الكرة،‭ ‬ومالي‭ ‬أنا‭ ‬والمنتخب‭ ‬الوطني‭ ‬وضرورة‭ ‬تشجيع‭ ‬اللاعبين‭ ‬وملء‭ ‬المدرجات؟‭ ‬ها‭ ‬أنا‭ ‬قد‭ ‬سمعت‭ ‬كلامكم،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬قد‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬زوجي‭ ‬ليأخذني،‭ ‬مساء‭ ‬الأحد‭ ‬الأخير،‭ ‬أنا‭ ‬والأولاد،‭ ‬ريان‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬ولينا‭ ‬ثمان‭ ‬سنوات،‭ ‬إلى‭ ‬مركب‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬لمتابعة‭ ‬مباراة‭ ‬المنتخب‭ ‬الوطني‭ ‬مع‭ ‬منتخب‭ ‬السودان،‮..‬‭ ‬كنت‭ ‬دافئة‭ ‬جالسة‭ ‬أمام‭ ‬تلفازي،‭ ‬وأمامي‭ ‬صينية‭ ‬الشاي‭ ‬المنعنع،‭ ‬فإذا‭ ‬بي‭ ‬أتذكر‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬في‭ ‬مقالاتكم،‭ ‬وأنتم‭ ‬تناشدون‭ ‬الناس‭ ‬للتوجه‭ ‬رفقة‭ ‬عائلاتهم‭ ‬إلى‭ ‬الملعب‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬إصلاحه،‭ ‬وأصبح‭ ‬مناسبا‭ ‬ومدرجاته‭ ‬مريحة،‭ ‬والدخول‭ ‬إليه‭ ‬متاح‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬أية‭ ‬عراقيل‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الخروج،‭ ‬فإذا‭ ‬بي‭ ‬أقضي‭ ‬أمسية‭ ‬لم‭ ‬تمر‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬مثلها‮..‬‭ ‬واجهت‭ ‬ومعي‭ ‬أسرتي،‭ ‬مخاطر‭ ‬حقيقية‭ ‬لولوج‭ ‬الملعب،‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬تذاكر‭ ‬للبيع،‭ ‬ونحن‭ ‬الذين‭ ‬سمعنا‭ ‬في‭ ‬الراديو،‭ ‬وقرأنا‭ ‬لكم‭ ‬أخبارا‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬ولوج‭ ‬المركب‭ ‬الرياضي‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬لمتابعة‭ ‬مباريات‭ ‬المنتخب‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬بطولة‭ ‬إفريقيا‭ ‬لمنتخبات‭ ‬اللاعبين‭ ‬المحليين،‭ ‬بالمجان،‭ ‬بل‭ ‬وتابعنا‭ ‬أخباركم‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬المنظمين‭ ‬وضعوا‭ ‬للجماهير،‭ ‬وبالمجان،‭ ‬حافلات‭ ‬تنقلهم‭ ‬للملعب‭ ‬وتعيدهم‭ ‬لمساكنهم‮..‬‭ ‬أتعس‭ ‬أمسية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬ذاك‭ ‬المساء‮..‬‭ ‬ونحن‭ ‬أمام‭ ‬أحد‭ ‬أبواب‭ ‬الملعب،‭ ‬وقف‭ ‬شرطي‭ ‬في‭ ‬طريقنا‭ ‬يطالبنا‭ ‬بالكشف‭ ‬عن‭ ‬تذاكرنا،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬علم‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نتوفر‭ ‬عليها،‭ ‬أمرنا‭ ‬بالتراجع‭ ‬والذهاب‭ ‬لاقتنائها‮..‬‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬يتطلب‭ ‬منا‭ ‬التوغل‭ ‬وسط‭ ‬أمواج‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬صدت‭ ‬أمامها‭ ‬أبواب‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬الملعب‮..‬‭ ‬بحثنا‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬بيع‭ ‬التذاكر،‭ ‬فلم‭ ‬نجد،‭ ‬وأمام‭ ‬نصيحة‭ ‬أحد‭ ‬الشبان،‭ ‬انتقلنا‭ ‬لمسافة‭ ‬طويلة‭ ‬ودائما‭ ‬وسط‭ ‬أمواج‭ ‬من‭ ‬الجماهير،‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬آخر‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬فرصة‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬الملعب‮.‬‭ ‬وجدناه‭ ‬مغلقا‮.‬‭ ‬كل‭ ‬الأبواب‭ ‬الأخرى‭ ‬كانت‭ ‬مغلقة‭ ‬باستثناء‭ ‬باب‭ ‬كبير‭ ‬كان‭ ‬يفتح‭ ‬طبعا‭ ‬للسيارات‭ ‬الفارهة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يصعب‭ ‬التكهن‭ ‬بهوية‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬بداخلها،‭ ‬فأكيد‭ ‬أنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬الدعوات‭ ‬الشرفية‮..‬‭ ‬كانت‭ ‬الساعة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬السابعة‭ ‬إلا‭ ‬ربع‭ ‬وموعد‭ ‬انطلاق‭ ‬المباراة‭ ‬السابعة‭ ‬قد‭ ‬حان،‭ ‬وكل‭ ‬أبواب‭ ‬الملعب‭ ‬مغلقة‮..‬أشفقت‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬ابني‭ ‬وابنتي،‭ ‬ريان‭ ‬ولينا،‭ ‬كنت‭ ‬وكذا‭ ‬مقالاتكم‭ ‬أنتم‭ ‬من‭ ‬تكتبون‭ ‬في‭ ‬الرياضة،‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬تعريضهما‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬العذاب‮..‬‭ ‬انتظرنا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬آخر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أتى‭ ‬الفرج‭ ‬وتم‭ ‬فتح‭ ‬الباب‮..‬‭ ‬نعم‭ ‬باب‭ ‬واحد‭ ‬وكان‭ ‬ينتظر‭ ‬فتحه‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬البشر‮..‬‭ ‬وكأنها‭ ‬موجة‭ ‬امتدت‭ ‬متدافعة‭ ‬لتلتحق‭ ‬بالمدرجات‮..‬‭ ‬أمسكت‭ ‬بيدي‭ ‬ريان‭ ‬ولينا،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬زوجي‭ ‬يعارك‭ ‬وسط‭ ‬الموج‭ ‬البشري‭ ‬ليفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬الطريق‮..‬‭ ‬لماذا‭ ‬يفتح‭ ‬باب‭ ‬واحد‭ ‬فقط،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬مركب‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬أبواب‭ ‬عديدة؟‭ ‬سؤال‭ ‬لايزال‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬تفكيري‭ ‬ولن‭ ‬أبالغ‭ ‬أنه‭ ‬منع‭ ‬عني‭ ‬النوم‭ ‬طيلة‭ ‬الليلة‭ ‬الماضية‮…‬
وأخيرا‭ ‬تمكنا‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬المدرجات‮..‬‭ ‬ابتسمت‭ ‬كمن‭ ‬حقق‭ ‬الانتصار‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬على‭ ‬العدو‮..‬‭ ‬سعدت‭ ‬وأنا‭ ‬ألمح‭ ‬الفرح‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬طفلاي‮..‬‭ ‬استطلعت‭ ‬المكان،‭ ‬بدا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬جميلا،‭ ‬درجات‭ ‬تغطيها‭ ‬تلك‭ ‬الأمواج‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬شاركتنا‭ ‬عذاب‭ ‬ولوج‭ ‬الملعب‮..‬‭ ‬أمامنا‭ ‬مستطيل‭ ‬أخضر‭ ‬براق،‭ ‬تحيط‭ ‬بنا‭ ‬أصوات‭ ‬تغني‭ ‬وتردد‭ ‬شعارات‭ ‬الوطن‭ ‬وحب‭ ‬الفريق‭ ‬الوطني‮..‬‭ ‬همست‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسي،‭ ‬يهون‭ ‬العذاب‭ ‬الذي‭ ‬واجهناه‭ ‬أمام‭ ‬أبواب‭ ‬الملعب،‭ ‬ها‭ ‬نحن‭ ‬نقوم‭ ‬بواجبنا‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬منتخبنا‮..‬‭ ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬سوى‭ ‬ثوان‭ ‬معدودة،‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬الوجه‭ ‬الخفي‭ ‬للمكان‮..‬‭ ‬صراخ‭ ‬وعبارات‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬الأدب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الشعارات‭ ‬المؤازرة‭ ‬لمنتخبنا‮..‬‭ ‬خجلت‭ ‬من‭ ‬نفسي،‭ ‬وتلك‭ ‬العبارات‭ ‬والكلمات‭ ‬الخادشة‭ ‬للحياء‭ ‬تحاصرني‭ ‬وأبنائي‭ ‬وزوجي،‭ ‬كما‭ ‬أحاطتنا‭ ‬وحاصرتنا‭ ‬روائح‭ ‬لفافات‭ ‬الحشيش‭ ‬والمخدرات‮..‬‭ ‬قاومنا‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأجواء،‭ ‬وقبل‭ ‬نهاية‭ ‬المباراة‭ ‬بنصف‭ ‬ساعة‭ ‬تقريبا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬التحمل‭ ‬والصمود‮..‬قررنا‭ ‬المغادرة‮..‬‭ ‬وكانت‭ ‬الصدمة،‭ ‬لا‭ ‬أبواب‭ ‬تفتح‭ ‬قبل‭ ‬نهاية‭ ‬المباراة‮..‬هكذا‭ ‬قالها‭ ‬ضابط‭ ‬للشرطة‭ ‬بانفعال‭ ‬وتوتر‭ ‬وكأنه‭ ‬يثأر‭ ‬من‭ «‬حكرة‭» ‬سقطت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‮..‬‭ ‬انتظرنا‭ ‬على‭ ‬مضض‮..‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬الفرج‭ ‬وانطلقنا‭ ‬خارجا‭ ‬نلامس‭ ‬ونستنشق‭ ‬هواء‮…‬الحرية‮.‬
من‭ ‬اليوم‮..‬‭ ‬لن‭ ‬أذهب‭ ‬مجددا‭ ‬إلى‭ ‬الملعب‮..‬أبدا‮!‬

الكاتب : عزيز بلبودالي - بتاريخ : 24/01/2018