بنداود الذي كان…!!!

إدريس الخوري   

فجأة، وبشكل لم يكن متوقعا قط، أعلن عن وفاة المرحوم عبد الحميد بنداود، وبمعنى آخر عن رحيل قصيدة النثر التازية، إذ ما إن بلغت نصف طريق الشعر المغربي الحديث حتى اختفت عن أنظار القراء مثل سراب لامع، والحقيقة أن الشعر نفسه مثل سراب خادع لا يقبض عليه بسهولة. يتعلق الأمر هنا بشاعر يكاد يكون متفرداً في كلامه، هو الغائب الحاضر دوماً، يتعلق الأمر بشاعر خارج التصنيف النقدي الجاهز، ذلك أنه يشبه نفسه ولا يشبه الآخرين، سواء في كتاباته الصحفية والإبداعية، في لباسه الأنيق دوما، في صمته الناطق وسكاته الهادئ، أليس الشعر نفسه قصيدة ناطقة باسمها؟ فليكن، إن بنداود نفسه قصيدة ناطقة، قصيدة نثرية ومنثورة فوق رؤوسنا وداخل آذاننا الصماء. فليكن أيضا، فالشعر نفسه عبارة عن صور متداخلة في بعضها، تشبيهات،  استرجاعات واستعارات ورموز.
لم يأت بنداود إلى الشعر من فراغ، بل من تراكم ثقافي تاريخي، من متن الشعر العربي القديم والحديث أهّله لكي يستقل بصوته الخاص عبر نصوصه الشعرية والنثرية المنثورة فوق رؤوسنا وداخل  آذاننا الصماء، لذلك سرعان ما انتمى إلى الحداثة دون استئذان  وساهم  في الدفع بها إلى الأمام وبشكل تدريجي، إن على مستوى اللغة أو على مستوى التخييل.
إن هذه الحداثة المنفوخ فيها اليوم كثيرا، من طرف الكثير من المدعين، لم تكن لتغري بنداوود، كان يكتب عن قناعة وعن وعي، واثقا في ما يقول وما يرى في دور الشعر في إزالة الغشاوة التي لا ترى في الحياة إلا البعد الواحد. ثم إن هذه الحداثة ليست هي الحذلقة اللغوية أو افتعال الكتابة الأخرى « المضادة» لما هو سائد، بل هي العمق في الرؤية الجمالية والعمق في التعبير اللغوي المجدد، أمامنا أدونيس، أمامنا محمود درويش ، أنسي الحاج، يوسف الخال وغيرهم.
لقد ولدت هذه القصيدة النثرية التازية ذات يوم في مكان ما من تازة، قد تكون تازة العليا أو تازة السفلى، ولم لا في باديتها الخضراء الشاسعة الأطراف شساعة قلبه النابض بالحب وبمحبة الناس. قد يكون وقد يكون، لكن إطلالته على هذه الدنيا الفانية كما نقول ستحدد له مصيره مسبقا في الحياة ومن ثم ستضعه رأساً في قلب الكتابة، هكذا فتح عينيه على  الحروف الأولى وعلى مخزونها الرمزي الدلالي.
يا بنداوود يا عبد الحميد ، هل وجدت نفسك في كلامك؟ هل أسعدتك الحروف الأولى للكتابة؟ أكيد أنك كنت سعيدا بما كنت تكتبه بغض النظر عن صدى لكل ما تكتبه.
لقد كانت حياتك مليئة بالحروف والجمل الطويلة والقصيرة، بالأسئلة الصعبة والأحلام المستحيلة، كنت اسما ملازما للحرف، للغة، للإبداع، ثمة جملة وراء جملة وفي النهاية ثمة نص أدبي قائم بذاته، لذلك ستكون في ما بعد صانع حروف وجمل، صانع نص أدبي مكتمل.
كانت حياتك مليئة بالأحلام والرغبات، بالانغماس في مأساتها اليومية المتراكمة مثل ديون، وها أنت الآن تغيب عنا إلى الأبد وتتركنا أشلاء نفسية متألمة،  فمن سيسلينا بكلامه المهموس؟ بضحكته المتقطعة وبكل ما يملك من نزوع البساطة؟ لا أحد إلاك. يتشكل هذا الجسد التازي شبه النحيل من رغبات دفينة ومن أحلام، من تطلعات نحو ما هو أجمل في هذه الحياة الدنيا.
نحن الآن في مقهى « لامارن» بالرباط،  في مطعم « نهار ليل» في مقهى « ميدي» في نادي الكرة الحديدية ، نحن الآن في أماكن أخرى متفرقة وفي نفس المدينة، وما حضورك بيننا هنا وهناك ضمن شلتنا المشاغبة إلا ملحا ضروريا في جلساتنا شبه اليومية، من هنا ظل بنداود حاضرا بيننا رغم غيابه.
لم يكن بنداوود يتحدث عن الكتابة مثل «شي وحدين» لم يكن متهافتا مثلهم، كان عفيفا وزاهدا في هذا. الكتابة اللعينة  فرحت كثيرا من الطحالب وإذا تحدث عنها فباقتضاب، وعن عمق في الرؤية وفي التحليل، هكذا ستتلاقح الأجيال الشعرية بالمغرب وتكوّن تجاربها الخاصة وراء الرواد :
أحمد المجاطي
محمد الخمار الكنوني
محمد بنطلحة
عبد الله راجع
إدريس الملياني
عنيبة محمد الحمري
مالكة العاصمي
وفاء العمراني
محمد بنيس
محمد الأشعري
أحمد الجوماري
المهدي أخريف
الخ……
لقد أعطت هذه الأسماء الأولى نفسا جديدا للقصيدة المغربية الوليدة عبر مراحل تاريخية معروفة، فاهنأ أيها «بنداودي» في رقدتك الأبدية…نم قرير العين.

الكاتب : إدريس الخوري    - بتاريخ : 21/02/2020