تحرير الفضاء العام: معركة المواطنة قبل المونديال

سعيد الخطابي (*)
لا تزال مشاهد احتلال الملك العمومي تتكرر بشكل مثير ومقلق في العديد من المدن المغربية، رغم بعض الحملات الظرفية والموسمية والتي غالبا لايرافقها تدخل حازم من طرف الجهات المسؤولة. حيث تغتصب الأرصفة وتصادر ممرات الراجلين في الأحياء والأسواق والشوارع الرئيسية، فيتحول ما تم تشييده لخدمة المواطنين إلى فضاءات خاصة، يستثمر فيها دون وجه حق، وتسلب فيها حقوق الراجلين والجيران، بل وحتى هيبة القانون.
لقد صار واضحا أن التعدي على الملك العمومي يمارس بوقاحة، كأنه حق مكتسب لا جدال حوله. أصحاب المقاهي والمطاعم والباعة المتجولون وحتى بعض المحلات التجارية، يتوسعون بشكل غير قانوني، يضعون الكراسي والطاولات والعربات أينما شاءوا، ويغلقون الأزقة والممرات دون أي اعتبار لمصلحة الساكنة أو للقانون. الأسوأ من ذلك، أن هذا الوضع يتم في كثير من الحالات تحت أنظار السلطات المحلية، ما يزيد من حدة الشعور بالغبن واللاعدالة لدى المواطنين.
ونحن في بلادنا، التي تتهيأ لتكون واجهة عالمية في أفق العرس الكروي العالمي 2030، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة عميقة لممارساتنا اليومية في تدبير الشأن العام، انطلاقا من أبسط تفاصيل الحياة في الفضاء المشترك، وصولا إلى احترام القوانين وحماية الحقوق الجماعية.
ولا يقتصر المشهد على المناطق الحضرية فقط، بل يمتد إلى الشواطئ التي من المفروض أن تكون متنفسا عموميا للمواطنين، فإذا بها تتحول في الصيف إلى ضيعات خاصة، يستباح فيها القانون جهارا مظلات وكراسي تنصب على امتداد الشريط الساحلي، ويمنع المواطنون من الجلوس على الرمال ما لم يدفعوا إتاوات لأشخاص لا علاقة لهم لا بالجماعة ولا بالمؤسسات الرسمية. شواطئ تتحول إلى سوق عشوائية، يعمها الضجيج والاستغلال، وتنمحي فيها معالم النظام والمجانية والحق في الاستجمام.
أما مواقف السيارات، فقد أصبحت بدورها مصدر قلق واحتقان اجتماعي. فوضى عارمة، وابتزاز علني يمارسه أشخاص يرتدون «البذلات الصفراء»، يفرضون إتاوات على السائقين دون أي سند قانوني، بل ويهددونهم أحيانا إن رفضوا الدفع. إننا أمام مشهد يكرس ما يشبه «السيبة»، ويؤسس لاقتصاد الظل المقنن بالعرف والتحكم لا بالقانون. هؤلاء «الحراس العشوائيون» يستحوذون على باحات عمومية ويحولونها إلى مشاريع شخصية مربحة، دون حسيب ولا رقيب.
وفي ظل هذا الانفلات، يثور سؤال مشروع: ألسنا بحاجة إلى فصل قانوني جديد يجرم هذا الشكل من الابتزاز؟ فصل يوازي الفصل507 من القانون الجنائي، أو ربما يعيد تكييف هذه الأفعال كجرائم استغلال غير مشروع للملك العام وابتزاز للمواطنين؟ أليست ممارسات «البذلات الصفراء» شكلا جديدا من الجباية غير القانونية؟ أليس من واجب الدولة حماية الحق في استعمال الطريق والمرافق العمومية كما تحمي الملكية الخاصة؟
إن الدولة، باعتبارها المؤتمنة على المصلحة العامة والمنظمة للفضاء العام المشترك، تتحمل مسؤولية مباشرة في تنظيم المجال وتدبيره بشكل عقلاني ومتوازن. فلا يمكن تحميل المواطنين وحدهم تبعات الفوضى العمرانية واحتلال الملك العمومي، في الوقت الذي تغيب فيه رؤية تخطيطية واضحة لإنشاء أسواق القرب وإعادة هيكلة فضاءات التجارة غير المهيكلة، سواء في المدن أو الضواحي. فمن غير المعقول أن يترك البائع المتجول، أو الحرفي الصغير، أو المستثمر المحلي عرضة للارتجال، في غياب بنيات مهيكلة تحتضن نشاطه وتحفظ كرامته، وتضمن في ذات الوقت حقوق الساكنة والمارة.
إن إنشاء أسواق القرب وتعميمها، وتحديث ما يسمى بـ»الجوطيات» وتحويلها إلى فضاءات منضبطة، هو مدخل أساسي لإعادة الاعتبار للفضاء العام. لكن هذه المبادرات لا تكتمل دون مصاحبة صارمة لعمليات منح وسحب التراخيص المؤقتة، وتفعيل دفاتر التحملات التي تحدد بوضوح التزامات المستفيدين في ما يتعلق بالنظافة، واحترام المساحة المرخصة، وشروط الاستغلال. كما أن السلطات المحلية، وهي الموكول إليها السهر على تطبيق القانون، مطالبة بتكثيف المراقبة الميدانية، لا بمنطق القمع، ولكن بمنطق التأطير، والمواكبة، والردع الرشيد كلما اقتضى الأمر.
فلا معنى لأي مشروع تنموي أو حضري إن لم يرفق بضمان الحق في الولوج الآمن والعادل إلى الفضاء العام، وإن لم تربط الحرية الاقتصادية بالمسؤولية الاجتماعية واحترام القانون. وهذا الدور التنظيمي للدولة ليس ترفا، بل واجبا دستوريا وأخلاقيا، يجب أن يترجم إلى سياسات حقيقية، لا إلى بيانات مناسباتية ووعود مؤجلة.
ومع كل هذا، لا بد من ربط هذا النقاش بما ينتظر بلادنا من استحقاقات كبرى، في مقدمتها تنظيم نهائيات كأس العالم 2030. فهل يعقل أن نستقبل ضيوفا من مختلف بقاع العالم في مدن تعاني الفوضى العمرانية واحتلال الفضاءات العمومية وابتزاز المواطنين؟ هل يمكن للمغرب أن يراهن على إنجاح تظاهرة بهذا الحجم في ظل ضعف احترام القانون، وغياب الحس المدني، وتراخي الجماعات المحلية في أداء أدوارها التنظيمية والرقابية وتفعيل ما يسمى بالشرطة الإدارية؟
كأس العالم الذي يعد تظاهرة رياضية كبرى، أضحى اليوم امتحانا حضاريا، ويسائل بعمق حكومتنا النيوليبرالية: ماذا أعدت فعلا لضمان صورة لائقة لبلدنا؟ وهل ستكتفي بالإشهار والتظاهرات الرمزية، أم ستتجه نحو جوهر الإشكال المرتبط بالحكامة، بالعدالة المجالية، وبحماية الفضاء العام من العبث والاستغلال غير المشروع؟
إن الرهان اليوم ليس فقط على تعبيد الطرق أو بناء الملاعب، بل على بناء ثقافة المواطنة والاحترام المتبادل. نحتاج إلى حملات توعوية قوية، وتطبيق صارم للقانون، وردع واضح لكل مظاهر السيبة، بدءا من المحتلين العشوائيين للملك العام، وصولاً إلى «حراس» الابتزاز. فنجاح كأس العالم لن يكون بالزينة والإنفاق، بل بمدى قدرة الدولة والمجتمع على فرض النظام وحماية الفضاء المشترك.
وحرية استعماله دون قيد أو ابتزاز هو أحد تعبيرات المواطنة الفعلية. فهل تتحرك الدولة قبل فوات الأوان؟ أم أننا سننتظر لحظة الحرج الدولي لنتدارك ما أضعناه في سنوات من التغاضي والتقاعس.
(*)الكاتب الإقليمي للحزب بالحسيمة
عضو المجلس الوطني للحزب
الكاتب : سعيد الخطابي (*) - بتاريخ : 13/05/2025