تقدميون سلفيون، وأغرار يعبثون بالكلمات؛ من هؤلاء؟!
أحمد المديني
سرق الوباءُ عاما ونصفـا من أعمارنا. مباهجَنا أطفأها. أحزانَنا أشجنها. أحلامَنا، مشاريعَنا، طوّح بها. كم أقارب، أحبّة، وكم أتراب لنا، ضياء وجوههم أطفأَها والأرواح أفناها، غصَب الحياة كلَّها. لكنه أعادنا نحن الذين فلتنا من هلاك أو كدنا إلى ذواتنا، وجعلنا ـ الغافلين منا ـ نكتشف دهاليز أنفسنا، ونتبين بمجهر الروح والعقل دقائقَ وتفاصيلَ أعمارنا نضعها على مشرحة ما عرفنا وعركنا وكابدنا وتعلمنا، ونعود نتحسّس أجسادنا، وفي المرآة نتملّى وجوهنا، كأنما للمرة الأولى نراها، ونعي أنّا كنا بشرا على قدر عالٍ من الهشاشة والبطَر والرّعونة، وها إنّا بتنا نخاف، ونتباعد نحن الذين لا يعرف بعضُنا أفرادا وشعوبا كيف يعيش إلا بالعدوان، وكلّ يوم يمضي، وآخر غداً يأتي هو مستقبل لفرح مأمول، نحن الذين ما بالينا بيوم ولا بِغد.
كان ذاك بالأمس القريب. لا يعجبني تشبيه القاسي واللاّ محتمل بـ (الكابوس)، فالحياة مجملا بقسوتها وعنفها ومصاعبها وما لا ينتهي فيها من كوارث، كابوسٌ مستمر، إلى أن نقلب وجهها الشقيّ والقبيح إلى ما يُرتجى فيتسمّى يغدو فرحا أو سعادة، هي لحظاتُ حبور ومجالسُ سرور. رغم هذا، وخلافا للمتشائمين، اؤلئك الداعين إلى أن نعيد النظر في كلّ أمور حياتنا بلا حدود، استفاقوا متأخرين من غيبوبة الخطأ والخطايا ويتوسلون اليوم الغفران و(الوعي النقدي) بتنكيس أعلام الذاكرة، إدغار موران نفسُه الذي احتفيت في هذه الصحيفة بكتبه وآرائه حول الجائحة، وفتاواه لما بعدها، تناسى، وهو على عتبة الرحيل، أن العيش في الحاضر أقوى من استخلاص العِبر من حياة ما فات؛ خلافا لؤلئك هذا الحاضر ما يعنيني، وهو ضرورة متغير، أي لا يمكن بأي حال أن يشبه زمن ومذاق ما كان، الحياة ليست دائرية، إنها إذ تبدو تتكرر فهي تتبدل، وقد تَمَلّ منها، وهذا إحساس ملازم للفنانين والكتاب، يهزون رتابتها بالهبوط إلى ذواتهم، وكسر الأشكال وصنع الأبعاد ومزج الألوان على نقيض ما في الطبيعة إلى ما لا نهاية، واختلاق الأخيلة، يحتاج إليها الإنسان لمقاومة العادي وغياب اليقين ولما تلبّيه الحكاية، فيقرأ الرواية بنهم ـ طبعا، عند الشعوب التي تقرأ ـ وإما يستسلم للسّحرة ويقدم مسلوباً القرابين.
صبيحة اليوم قبل أن أجلس للكتابة، خرجت وعدت مُوسوساً. كان الكلام يتكلم وحده في رأسي، ويكاد يطفر على لساني بدون إرادتي، لم يقلقني هذا لأن أشياء كثيرة مزدحمة في داخلي وتأخذ (الصّف) لتتجسّد، تعلن أناها شرط الوجود، هذا التدافع، وليس التهافت بالمرة، من أجل اقتناص لحظات غاربة من الحياة تأكيداً لهوية الإنسان وتعبيراً عن حيويته، الرّغبات العارمة التي إما تتنفس في مناخ الحرية والاستجابة، أو يسحقها القمع ويُذِلّها الحرمان، وينمو الكلام دُمّلا بالدواخل. الحكاية أننا في شهر شتنبر نرى ونشمّ الخريف يتنفس في أوائله. إنه فصل يحدث كل عام، كما هي الفصول الباقية، لكنه لا يأتي أبدا بالشكل واللون والإيقاع المعتاد. عدت موسوساً بل قلقاً كيف فاتني أني لم أر الخريف في النطفة الأولى، وهي ليست صورة وشعر جوزيف حرب: « ورقُه الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك» كما في أغنية فيروز، أراه وهو آتٍ مع العصف الأول، والرمادي يحجبُ السماء بالسحاب، والشمس هنيهة تخوض العباب، وورق الشجر يفطر فجرا بنَداه، فبَللٌ لآلاءُ يغسل التراب، والأشجار التي تعرفني وأعاليها حيث للطير وُكُنات تطل تسألني هل دنا الرحيل، أوشك الغياب، أسمع خفق أجنحتها أطمئن، إلى غضارة الشجر بعد، فأُطمئنها هو في العتبة فقط وأنت وأنا أمام الباب، الخريف حامل الآن، وغدا هو مرتع الرغاب.
القصد، لا شيء يبقى كما كان، والزمن ليس ديمومة صمّاء بل متحولا في أجسادنا ومن عيوننا وحولنا، والأكثر في العقول، أحسب من لا يدرك هذه البديهة واقع خارج الزمن، ومستلَبٌ إلى تاريخ مضى يبقى. الشيخوخة والخرف لا يحدثان لتقدم العمر وحده، وبالضرورة، ولكن لانشداد إلى صور زمن ولّى ومثال مضى وتحويلهما إلى حائط مبكى: هكذا كان أجدادنا! هكذا كان زعماؤنا! تلك نضالاتنا وأفعالنا! وأين قيمنا ومبادئنا؟!. ولك أن تعجب أن (نخبة) البكّائين والمولولين، هذه، تزعم حمل عقيدة التغيير وتنسب لها انفراد الإيمان بها، وتنفي عن غيرها كل قدرة على الاجتهاد والفعل، وترى في كل ما تراه أفعالا مشينة ليس غير، وانحرافاً وخروجاً عن المحجة البيضاء (كذا). صنف جديد نقدمه للعالمين: تقدميون سلفيون، كيف يستقيم هذا الزوج النقيض المفارق؟! لا يتم هذا في الأجواء العربية بنقاش، بتحليل، بالمناظرة العالمة الهادئة، ولا حتى السِّجال الحامي هو من طبيعة الصراع بين الإيديولوجيات، لا أقول الثقافات، إذ لا أفكار، فهي للمفكرين والمثقفين، هؤلاء غائبون أو مغيبون عُوِّضوا برهط من قوالب كلام حفَظة القوانين؛ يتم بالتخوين والإدانات المسبقة، بحبس الآخر في أقواس شعارات مسبقة، بل وإلقاء جسده حيا إلى أتون المحرقة. يمكن لمن لم يعد قادرا على رؤية الشمس أن يحجبها بعماه
بوسع من شاخ في الحنين ولا زاد عنده، زيادة على الحساب البنكي، إلا رصيد الذكريات هي أفضل من المرئي والحادثات، أن يستخرج منها ويرمي في الفراغ يحسبها ضربا بالمنجنيق. لا، بل يمكن لأفواه لم تُمتحن بالمُرّ ساعة واحدة وعيشُها منذ نعومة الأظفار حلو وملح أن تدوس بقدم قذرة على نضال أجيال، الأموات فيهم أكثر من الأحياء، مما يستوجب حدا أدنى من الحياء، باجترار عبارة باهظة التكاليف في معناها استخدمها تروتسكي في سياق محدد لم يكن في حسبانه أن سيلوكها أيّ عابر سبيل، لما خاطب المنشفيك: «(…)انتهى دوركم. اذهبوا إلى حيث تنتمون من الآن فصاعدا أنتم في مزبلة التاريخ». يا للتاريخ كيف يُسترخص وبأي نذالة وأصابع الاتهام يُسام، إما يقوده أبناؤه من جديد إلى حتفه، أو يعبث به كدُمية الأغرار.
أكتفي بهذا القدر، لا طاقة لي بشرح أكثر يُدمي القلب، ولا متابعة سعار ومقت من هبّ ودب. لست معنياً بمراقبة الرابح والخاسر في مزاد تبسيط المفاهيم والبكاء على الأطلال، ناهيك عن تشييد قصور رمال في البحر؛ قلقي على إفلاس الكلمات فلا نعرف بعد كيف نتواصل ونتفاهم لنبلغ الرسالة. لذلك تجد الكاتب سبّاقاً لاستشراف المستقبل لا تكفيه كلمات الحاضر، أكثرها غُثاء، المعاني لا تنتهي ينجبها الزمن، والإنسان سيّدُه أو لا يكون، وما كتبته اليوم لن أعبده غدا، والتاريخ وعي به لا تأريخ رجال وحقب. احترزوا من الكلمات إذن وجددوا أو إلى الفناء.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 06/10/2021