حرية الجامعة والفكر على المِحَك في بلد فولتير

  أحمد المديني

عام ونيف باقٍ على موعد انتخابات الرئاسة في فرنسا، موعد سياسي تتقابل فيه أنظار عواصم العالم، والبلدان المستعمرة سابقا تربطها أواصر لغوية واقتصادية بالمتروبول. في هذه الشهور المتبقية تتعدد رهانات الحاكمين، والمتربّصين بمنعطف الفوبور سانت أنوريه،المؤدي إلى قصر الإليزي، لمحاولة إزاحة نزيله الحالي إمانويل ماكرون، أو بقائه هو ذاته خماسية حكم ثانية، طموحه الأرجح دونه كمّ صعاب. الحق أن هذا الرئيس الشاب الذي قلب كل حساب، اليمين التقليدي واليسار بفئاته، متسللا كلاعب كرة ماهر جدا بين أقوى اللاعبين ليسجل إصابة الحسم والحظ، واجهه القدر السياسي منذ تولى الحكم بعواصف عاتية، بين شارع منتفض(حركة السترات الصفر) ومطالب قوى نقابية مناهضة لكل إصلاح(إضرابات شلت الاقتصاد) زيادة على تعثرات فريق حزب أغلبيته(الجمهورية إلى الأمام)، انتهاء، بوضعية الوباء العالمية التي فرضت شهورا من الحجر الصحي توقف فيها العمل والإنتاج، وتحولت فيها الدولة وما تزال أمّا مرضعة للجميع، بما ضرب الاقتصاد والنمو في مقتل ويؤدي إلى إفلاسات على الأصعدة، كافة. حدث هذا كلّه، والرئيس الفتيّ، يبُحر بثبات وسط بحر لجب، معلناً بعناد إصلاحات جذرية بدأها بقانون التقاعد الخطير، وانتهاءً إن شئنا بالقانون الأخير الذي صوتت عليه الجمعية الوطنية لمحاربة ما سمي(الانعزالية) في قلبه كيفية التعامل مع وضع الإسلام والمسلمين في فرنسا، وإعادة تجذير مبادئ الجمهورية. بين هذا وذاك غيّر وزيرا أوّل (إدوار فليب) متصلبا وطموحا، بآخر حِرفي ومطواع، ومعه وفي ظل المصادقة على القانون الأخير وتعيين وزراء من عيار متشدد بدا كأنه يفتح “الطريق الملكي” قبل المنافسين لانتخابات الرئاسة في مايو 2022، ويستبق فريقه صناعة الخطاب والشعار.

من الفريق العتيد وزير التربية الوطنية، بلانكي، الذي يوجد اليوم، وإن في خلفية الصورة، في قلب زوبعة غير مسبوقة مركزها الجامعة الفرنسية، ومرماها الاستقلال الأكاديمي وحرية البحث العلمي، منذ حذر (أكتوبر 2020)مما نعته ب(الوبال الإسلاموي اليساري)، بعده دعا نائبان يمينيان للبحث في تغلغل التيار في الجامعة. وهذا شأن جلل لما تحظى به هذه المؤسسة من حصانة بمرتبة القدسية. منذ نشأتها الأولى سنة 1200 ما فتئت الجامعة الفرنسية تتطور في مجالات المعرفة والآداب متميزة بتحررها من سلطة الكنيسة، وتتوسع كِبَراً واختصاصاً مع نابليون الأول مؤسس الجامعة الإمبراطورية(1808)، وانتقالا إلى إعادة هيكلة(1896). على امتداد هذه المراحل انتصبت حرما ومحفلا علميا رفيعا جسّده بقوة وفخامة الكوليج دو فرانس(1530) وخصوصا جامعة السوربون العريقة (1257) التي كانت مقصد طلاب العالم وخرّجت باحثين بارزين صاروا أعلاما في بلدانهم. لقد كان طابع التعليم الكلاسيكي والمحافظة هو الغالب في المناهج والمعارف مع الصرامة ومقام الأستاذية وتعالي هذا الهيكل عن ما هو خارجه، لهيئة التدريس والإدارة القرار الأول.

مع الانتفاضة الطلابية لمايو 1968 وما تلاها من أحداث يمكن القول إن الحركة الطلابية اليسارية، طلبة السوربون عيناً، أسقطوا الهيكل شبه الكهنوتي لهذه الجامعة، ومع أن انتفاضتهم لم تقلب المجتمع كما هتفوا واقتلعوا في سان جرمان والحي اللاتيني، واستمر يمين الجمهورية الخامسة قابضاً على زمام الحكم، إلا أن الحركة صنعت عديدَ رموز وأسقطت سلطات، وأسلوب حياة جديدة سيبدأ، وبالنسبة للتعليم العالي ستظهر جامعات مختلفة(مثلا، باريس الثامنة، ونانتير)تعبيراً عن تغيير جذري في المفاهيم والمناهج والمعارف في قلبها العلوم الإنسانية، وانتزاع الأساتذة لمزيد حرية في البحث بكسر القوالب التقليدية وتحوّل الجامعة إلى منبر حر بالكامل، أبحاثا ودراسة وسلوكا في حالة ثورية بامتياز. وهو الجو الذي انعكس على نظام التعليم في العقود اللاحقة عشت فيه منذ الثمانينيات بين الدراسة والتدريس وحوّلني عقلا وممارسة. هذا الجو انتعش بحريات إضافية في عهد الحكم الاشتراكي لميتران، وبعده بدأ يشحب، فخصوم التحرر العلمي بمرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية لم يهزموا، ومذ استعاد اليمين المبادرة تهافتوا يحاولون استرداد ما ضاع، وهو كبير وكثير، فقد كان اليسار وفكر حر جديد قد تغلغل في شُعب التعليم الجامعي برؤى وتصورات وتيمات بحث مغايرة مطلقا للسابق، وتمثل خصوصا سلطة معرفية بأرضية سوسيولوجية وأنساق فلسفية ميّزت الثقافة الفرنسية في العقود الأخيرة للقرن الماضي، أعلامها مفكرون ومبدعون صاروا علامة عصر.

الآن، يمكن أن نفهم القيامة التي تعيشها الجامعة الفرنسية بسبب إقدام وزيرة التعليم العالي على دعوة المركز الجامعي للبحث العلمي لإعداد تقرير عن وضع الأبحاث والأطروحات في الجامعات، انطلاقا مما أسمته تفشي الدراسات(الإسلاموية اليسارية) تنخر المجتمع، تعني وجود مواضيع من قبيل البحث في دراسات ما بعد الاستعمار والأعراق والتمييز الاجتماعي والجندر، بغية الفرز بين الأكاديمي ونضالوي النزعة. مباشرة انفجرت القضية لتتحول إلى زوبعة جامعية، ندد بها فريق كبير من الأساتذة، متهمين الوزيرة فردريك فيدال بالتشهير بمهنتهم، واستهداف العلوم الاجتماعية، والخلط بشكل مريب بين شعارين، والتلويح بالقمع. أحرى، عندهم، مواجهة الوضع المزري للطلبة والخصاص المستفحل للجامعة، من ثم وضعوا لائحة بتوقيعات بلغت الآلاف باستقالتها، وفيما سعى الإليزي إلى ضبط سلوك الوزيرة وتأكيد استقلالية الأساتذة الباحثين، وجدت تأييدا من أطراف في الفريق الحكومي يوافقونها النظرة. ما لم يمنع أكاديميين بارزين ومحللين من رفع الصوت عاليا تنديداً بالمس بحرية الفكر في بلد الأنوار التي أنجبت فولتير ومونتسكيو وروسو وتعد عاصمتها منارة لحقوق الإنسان، وتعتبر الجامعة أهم محافلها وأقدسها. أبعد منه يجد سياسيون من اليسار في هذه الخطوة حلقة أخرى في مسلسل استقطاب ناخبة اليمين التقليدي والمتطرف وحصد شعاراتهما خلافا لليبرالية المتفتحة التي بدأ بها ماكرون خماسية حكمه، بما ينبئ بتوجّه نحو تصلب يميني سيزيد فيه التضييق على الحريات. وضع جامعي متوتر في ظرف إغلاق شبه تام للجامعات، وبداية مواجهات بشعارات متضاربة لا تخلو من مزايدات، كلّه في أفق انتخابات رئاسية ما زالت بعيدة والوباء يزيد في الحصار، لكن الخوف على مصير حرية الفكر والتعبير هنا يعلو على كل شيء وقد مر بأكثر من اختبار وهذا آخر جديد، وهي أزمة ذات أبعاد، وستمتد.

 

 

 

 

الكاتب :   أحمد المديني - بتاريخ : 03/03/2021