حسنٌ، اكتشفنا ضَلال قِيَمِ الغرب، فما هي بدائلُنا عنها؟
أحمد المديني
يعيش أبناء هذه الأمة والرافضين لها، أيضا، أنواعًا لا حصر لها من النزيف، وهم في جغرافيتها ومن تاريخها ولا خيار لهم في مآل أوضاعها وسياقات أزماتها وأعطابها وتحولاتها. تاريخنا الحديث جلُّه نزيفٌ من أثر محاولات الخروج من الجمود والانتقال إلى التقدم وتحقيق التحديث. من شدة تعارض تراثنا وطموح فكر النهضة، وتصادم المحافظة مع الاستنارة نزفنا بأن أضعنا وقتًا طويلاً في سجالات عقيمة، ومفكرونا أغلبهم أصرّوا على بناء أطروحة التوفيق بين الأضداد، أرادوا استمرار القديم الميّت وزرعِه في جسدٍ حيٍّ نافر منه فنزف من الاثنين دمٌ غزير. ثم ذلك النزيف الذي ما انقطع منذ بدأ ما سُمِّيَ مشروع النهضة، الناجم عن سوء الفهم والتأويل لماهية ومحتوى الثقافة والمدنية الغربية باتخاذها مصدرًا وقبسًا لكل جديد. وأخطر، بل أسوأ نزيف هو الذي أصاب ويصيب ذاكرتنا، فهي زيادة على تكوّنها من أشتات ومِزق، تبدو مرقّعة كالخِرق، مفتقرةً للتسلسل والامتداد وخصوصا للنّسق، وفي كل حقبة زمنية نبدو وكأننا سنبدأ من عدم، لم نستوعب ماضينا ولا نُسخِّرُه لخدمة حاضرنا فكيف لاستشراف مستقبلنا، نحيا بذاكرة النّسخ والتكرار، وحداثاتنا ملفقةٌ برطانات وقشور الورق؛ أقول أخطر نزيف ألِفناه فأصبح من طباعنا ومُسِح من ذاكرتنا كأننا بلا عقل، هو النسيان.
لست مازوخيًا من هُواة جلد الذات، وحاشا أكون نذْلاً لأشتم أمتي، فيها ما يفيض عن الحاجة من جاحدين وأوغاد وأنذال، ناهيك عن الذين ما عادوا يخبِّؤون وجوههم، يبيعون ويشرون بالأوطان وعلى عينك يا تاجر، يصرفون الصفقة ويبيّضونها بأنها طريقة جديدة في الدفاع عن الوطن وتحصينه،زه! وفي نهاية المطاف هم لا يعبؤون يدُهم تصل إلى القلوب والجيوب وسرُّها عند علاّم الغيوب. ما دام الأمر هكذا أتركها لأعود إلى ما أخذني إلى هذا الحديث من البداية قد نزفتُ في الاستطراد بدوري، فأنا أحببت أم كرهت من غُزَيّة. قلت الأخطر، النسيان لا ذاك الذي ينتاب أو يصيب عادة بين الفينة والأخرى كلّ إنسان، ولكن ما يدنو به من فقدان الذاكرة(amnésie) وتعريفهُا مجملاً فقدٌ جُزئي أو كلّي لما اكتسبه الكائن من تجاربَ أو مرّ به من حوادثَ في وقت قريب أو متوسّط أو بعيد جدًّا، أيضًا، تُمسي مطموسةً كأنْ ما وُجدت.
خطر ببالي هذا التداعي مع المحنة التي تمر بها فلسطين ـ هنا لن يجادلني حتى المستسهل لما كان يسمّى قضايا الأمة القومية، أنها من الأمة، وإلا لما اتُّخذت صكَّ غفران ـ أي بصريح العبارة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة على مرآى ومسمع بالصوت والصورة مباشرة؛ وما القراء في حاجة إلى إسهاب لشرح هذا الباب. بيد أننا نحتاج إلى وقفة لازمةٍ مع من أصابتهم الأمنيزيا ولو وقفت الإصابة عند حدود ما تعرف به اصطلاحًا وعِياديَّاا لقلنا لا حول ولا قوة إلا بالله، لكن الحالة تستفحل أحيانًا خارج التشخيص وتستدعي البحثَ في الطباع، ما يُصاب به المطموس ويُرى عليه، فلا تعرف أهو عاقلٌ أم أهبل؟ فطِنٌ أم مغفل، أم ساذج؟ لقد أصبنا جميعًا بهذه الحالة أو ما يشبهها نتيجةَ ديمومةِ نزيف النسيان، ليصبح كلُّ شيء سِيّان.
إنه الغرب وموقفُه منّا، وردودُ أفعالنا تجاه هذا الموقف، حسب النوازل والأحوال. نستخدم الغرب بتعميم واختزال وإطلاق، وهو متعددٌ ومُركّب، مثل الذين في أي مناسبة يستخدمون اسم (العرب) ولا نفهم من يعنون، الشعوب، أم الحكّام، أم النُّخب، وفي هذه التعميم إمّا جهل أو تحايلٌ على الحقيقة. ولا حقيقة مطلقة للغرب كما عند بعض المثاليين ممن يرونه بعين واحدة منبعَ حقوق الإنسان وقدوةَ الديموقراطية والعدالة والمساواة ومثلها من قيمٍ اعتُبرت خالصةً للبشرية جمعاء، وبيئاتِها قدوة. وإذا لم يكن شكٌ في جدارة هذه القيم ومحتواها وأهدافها وتطلُّع شعوب الأرض لتحقيقها ولمزاياها، فهي نقيضُ الاستبداد والظلم والاستعمار واستلاب الحرية والاستغلال واغتصاب الحقوق المشروعة إلخ؛ هي أيضا وُضعت في بلدان لها تاريخُها الخاص وسياقاتُ صراعها ونضالاتها ودفَع المفكرون في عهد الأنوار الثمن الباهظ من أجلها.
بقدر إيماننا بهذه المبادئ ومصادرها ومجتمعاتها والمؤسسات الرائدة لها، والمنابر المروّجة، والمفكرين والكتاب والأعلام جميعًا المؤمنين بها الداعين لنهجها، يأتي ردّ فعل الخيبة الأليمة والصدمة العنيفة إذ نصطدم بانقلاب أهلها عليها وتنكُّرهم لها ومناوراتهِم تُظهر لنا غربًا خيّب أملنا بل خدعنا وضحِك على ذقوننا، باختصارٍ يستخدم حسب عبارة الصحافة (الكيل بمكيالين). قبل أسابيع، أصاب بلادنا زلزال مهول، واتخذ المغربُ قراره السّيادي المشروع بالجهات التي يستقبل مساعداتها، ولم تكن فيه فرنسا مدّت اليد ولم يستجب لها ولغيرها أيضا، اعتمد بنجاح على مقدرته الذاتية وتعبئة شعبه. قامت قيامة الإعلام الفرنسي وأصابه سُعارُ كيف يُرفض العرض الباريسي، ولم يبقِ كلمة سوء وتشهير وهيجان ضد المغرب وعاهله لم يستعمله حطبا لنار الغضب. من جهتنا أصيب كثيرٌ بالخيبة والتقزز من موقف المستعمِر السابق وإعلامه، الحق فيه من لم يقامر بمبادئه. ونادى النادب: هل هذا هو الغرب، أرأيتم أي منقلب ينقلبون؟!
أعتى منه ما نشهده اليوم مع حرب الخراب والإبادة المعلنة على غزة باسم الانتقام مما فعلته مقاومة حماس، هذا العقاب الجماعي لشعب بأكمله وتقتيله وتهجيره هو نفسُه الذي هُجِّر سنة 1948. منذئذ وأرضه محتلة ينتظر من (المجتمع الدولي) أن ينصفه، المجتمع هذا الذي نراه يساند إسرائيل مساندةً مطلقة ولا يحفل بالحق الفلسطيني، وليمت مليون وأزيد بالجوع وتحت القصف بالصواريخ، ما همّ. إنه الغرب، نعود مرة أخرى نصرخ، نُصدَم، نشهد من جديد بمازوخية مسرحيةً تراجيديةً نحن المخدوعين والمطموسين أبطالها، وننسى، ذاك النزيف المستمر، التاريخ الاستعماري الطويل للغرب، ننسى أن بريطانيا هي صاحبة وعد بلفور بتمليك اليهود أرض فلسطين، ننسى العدوان الثلاثي على مصر(1956)، ننسى أن فرنسا هي من زودت إسرائيل بالتكنولوجيا النووية، معها التقتيل الأمريكي للشعب الفيتنامي، وقريبًا جدا كيف سلمّ الأمريكيون العراق إلى إيران على طبق من ذهب وجعلوا منها القوة الأولى في الشرق الأوسط. كم نحتاج أن نتذكر من أهوال هذا الغرب في السياسة والحروب والفكر كذلك(ما فعله المستشرقون بتراثنا من سوء تأويل). ثم في كل مرة نؤخذ على حين غِرّة، ونشكو ونستنكر ونعلن خيبتنا من قيء وزور إعلام الغرب، ياه، ونتباكى سُذّجًا على اندحار أخلاقه!
عندي كلمتان أخيرتان في هذا. الحديث أولاهما، أننا لا نُصدم في الغرب(بتجريد ومطلق) وإنما في التّصور الذي بنينا له وعنه. لنقم بتفكيك هذا التّصور، ربما سنتجاوز الصدمة لنبني حقيقة ثانية، لكن كثيرين منا يخافون هذه العملية لأنها تهدد إما هويتهم المزعومة أو مصالحهم، أو هما، معا. ثانيا، ما هي البدائل وقد اكتُشفت سوءة الغرب وضلال قيمه ؟ وماذا عندنا وننتظر وكيف لنحقق لشعوبنا وبلداننا محتويات ومنجزات المبادئ العظمى لحقوق الإنسان والديموقراطية التي يعتبرها الغرب حكرًا عليه ويرانا نحن أدنى في المدنية والحضارة وأشبه ب» البهيمية»؟ يا له من مشروع خطير، أعظم من استرجاع الحق الفلسطيني، إنه التحدي الملقى على عاتق الأجيال القادمة.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 18/10/2023