حفظ الذاكرة، عنوان كبير لقضية أكبر

مصطفى خلال

راقتني كثيرا الفكرة: فكرة تأليف كتاب في جزأين من إنجاز لجنة ثلاثية تتكون من لحبيب بنمالك وأحمد حبشي وبتنسيق صْدِيِق لحرش. راقتني وفاجأني هذا المسلك النبيل الذي يهدف إلى جمع نصوص عديدة حررها أصحابها عن محنتهم ومحنتهن التي قاسوها خلال فترات رهيبة مما أصبح يصطلح عليه بسنوات الجمر. وهي محن لم يعان منها رفاق هؤلاء فقط بل طالت مجموعات كثيرة جدا من مغرب ما بعد الاستقلال مست الاتحاديين والشيوعيين والماركسيين وغير هؤلاء من توجهات أصولية وأخرى من انتماءات مختلفة عن هذه الحساسيات السياسية. ولقد كتب بعض من هؤلاء جميعا نصوصا جديرة بالاعتبار تشهد على قساوة تلك المحن، مثلما شهدت عليها مختلف أنماط التتبع الحقوقي المحلي والعالمي. بل إن قضايا ما زالت مطروحة إلى اليوم، مثل تلك التي تتعلق بـ»مجهولي» المصير.
وبالعودة إلى اللجنة السابقة الذكر ينبغي الاعتراف بأنها اشتغلت كما يشتغل النحل، استكتبت من استكتبت، وشرعت تجمع النصوص وتنظم وترتب وتناقش في اجتماعات ماراطونية مضنية. ثم، من أجل التواصل لجأ صْدًيق إلى منصة الواتساب وأنشأ مجموعة قدر ما تسمح به هذه المنصة من أعداد. وأنهت اللجنة العمل بطبع الكتاب ثم بعملية توزيعه المتعبة. اختارت أن توزع بمجهودها الخاص فتبعث بالمطبوعين بواسطة وسائل النقل العمومية إلى حيث يوجد رفاقها ورفيقاتها في كل ربوع المغرب. لكن رفاقا ورفيقات للجنة المذكورة يعيشون في بلدان عديدة بالمهجر، هم أيضا وصلتهم نسخهم ونسخهن، ورغم كل هذا الجهد المضني، ولأن كل عمل إنساني لا بد أن تعتريه نواقص، فقد كان صْدِيق لَحْرَشْ يتقبل بصدر رحب وباستدراكات متتالية كل الإشارات، التي تأتي من هنا وهناك، فهذا يحتج من بعيد من أنه لم يتوصل بنسخته، وهذه تحتج لأن فقرة صغيرة سقطت من نصها لحظة التوضيب، وذاك يغضب لأن أخطاء مطبعية توجد في نصه المطبوع.
ثم تُوج العمل الطويل والمضني والصبور بالإعلان عن تنظيم اللقاء المعهود الذي يحضره كل من يستطيع من الرفيقات والرفاق. لقاء تأجل ثم تأجل، مرة لأن كورونا كانت قوية الحضور لا تزال، ومرة لأن السلطات سمحت بقاعة ثم تراجعت، لكن صمود رفاق صْدِيق لم تحبطهم الشهور المتوالية فانتهى بهم الأمر إلى عقده في العشرين من الشهر المنصرم بمركز إدريس بنزكري، لقاء عاطفة هو كان، ولقاء توادد، وتوارد للذكريات، لقاء للفرح منذ أن شرع في تنظيمه على رأس كل سنتين، في العام 2013 والذي يعود أصله إلى لقاء عفوي انتظم في بيت الفقيدة آسية الوديع في العام 1999، تلقى الكلمات والخطب، يحتفى بالجديد، وجديد لقاء هذه الدورة السابعة كان إنجاز فيلم بالاعتماد على الصور كما كانت في ذلك العهد، ثم كتاب (حفظ الذاكرة) الذي سيبقى وحده، كنص، واحدا من بين النصوص والكتابات العديدة التي تم تأليفها من قبل الذين عاشوا تجارب القمع الشرس في الفترات المعروفة .
لقد تفرقت السبل بهذه المجموعات، وخيضت تجارب سياسية وحقوقية جديدة، بل وتباعدت هذه التجارب وهاتيك السبل، وتقدمت الأعمار كثيرا، لكن شيئا أساسيا لم يتغير: المحبة الراسخة والعاطفة الصافية واللتان تعبر عنها هذه العناقات وإثارة الذكريات التي تدب في شرايين اللقاء في كل دورة من دورات (حفظ الذاكرة)، غير أن دورة ال 20 من مايو 2022 كانت استثنائية، استثناء كانت ميزته الرئيسية، كما قلنا، تقديم الكتاب من جزأين الذي أشرنا إليه، والذي أنجزت قراءة له الأستاذة ربيعة مرضي، زوجة الفقيد إدريس بنزكري.
إنه لا شيء يحفظ الذاكرة أكثر مما تحفظه الكتابة.
لقد أنجزت كتابات ونصوص قبل هذه التجربة، كتبها أصحابها وكتبتها صاحباتها من أجيال من المعتقلين والمعتقلات والسجناء والسجينات، بل وأنجزت أعمالا فنية غير مسبوقة، وهي كتابات وأعمال أصبح عددها خليقا بإقامة مكتبة خاصة بهذا الصنف من الأدب، أدب الأسر بالمغرب.
ذلك أن الأعمار تنقرض كما هي سنة الحياة، وليس بالشفهي يتم إنجاز (حفظ الذاكرة)، بل بالكتابة في حال الأفراد، وبإقامة المؤسسات التي تستغرق الزمن كله، في حال الدولة. كلاهما، تقع على عاتقهما هذه المسؤولية الوطنية الإنسانية.
لذلك فإننا نثمن عاليا – في ما يرجع للأفراد، هذا العمل – لأنه عمل، فضلا عن تنظيمه لقاء على رأس كل سنتين للفرح وللذكرى والتذكير بالتشبث بالحلم الجميل، حلم إقامة مجتمع تسوده قيم العدالة الشاملة تنتفي فيه كل أشكال الطبائع المستنكرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ولغويا وثقافيا، فضلا عن ذلك فإن القائمين عليه وعوا أهمية المبادرة التي أقبلوا عليها.
والحق أن هذه المبادرة والمبادرات الشبيهة المقترنة بأحزاب وتنظيمات اليسار بالمغرب، وتلك التي تتصل بنشاط جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، وباقي التنظيمات المماثلة، إنما تدعم جميعها بصورة أو بأخرى، وبطبيعة كل مضمون خاص يعود إلى هذه أو تلك، نقول إنها تدعم المؤسسة الرسمية للدولة، مؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، حتى دون قصد منها…

الكاتب : مصطفى خلال - بتاريخ : 07/06/2022