حق الذاكرة،وحقوق الآخرين ليست ريعا في مزاد
أحمد المديني
هل يمكن للذكريات أن تنقذنا حين لا يبقى لنا أحدٌ وأمامنا شيء؟
أيّ حديث عن الذكريات يقترن باستحضار الذاكرة خزانا ممتلئاً أو قربة فارغة، أحيانا مثقوبةً قد سال منها ماء العمر، تسقط منها قطرات كنفس الاحتضار وقد جف الدمع غدت إذن تالفة.
في غمرة الحاضر وجموح العمر لا نفكر في الذاكرة لأننا إما منشغلون باليومي الذي يكتسح ولا يسمح بالتّأني، وهذا زمن متأخرٌ يأتي بعد أن نكون قد استنفدنا الحاضر، إنه حاضر آخر، ويا للمفارقة، يسعى لاسترجاع سابقٍ عليه ليُصحّحه، يدقق فيه، يوثقه أو يتأمله بهدوء العقل والبصيرة بعد أن انطفأ جمرُه وأصبح كتلة باردة تُقرأ بالمنطق لا العاطفة، إنه زمن الرماد؛ وإما نتحاشى التفكير فيها تاركين حبلَ الأفعال والأحداث والمشاعر حلوها ومرّها على غارب الأيام، مصطنعين إما الغفلة، أو التغافل والنسيان، نظنه خطأ كفيلا بكل شيء ونمضي.
الحق، ثمة ذاكرات، أي أزمنة، منها ما هو رغم كثرته قابلٌ للجمع والتجريد في نماذج، فلكل فرد تاريخُه الشخصي يرسم معالم سيرته، من الحياة إلى الممات، وتبرز فيه أحيانا علامات، هي تلك الخصوصيات التي يسعى الموهوبون والحسّاسون إلى تدوينها بشعور وإمّا بوهم أنهم عاشوا شيئا مختلفا عن الآخرين، وهم بذا يقدمون تجربة تُغني تصوّرنا عن فرادة ومعيش الإنسان. سنسمّي هذه ذاكرةً مضاعفةً ومتعددة لأنها إذ تتحدث عن مناقب ومصائب صاحبها تطوي في عطفها ظلالَ وبصمات الآخرين وأجواءَ ومياسمَ محيطها لتقترب من ذاكرة جمعية، وهذا لا يتوفر إلا في الأدب القوي، والسيرة الخبيرة لدى نوابغ وحكماء لا لكل عابر سبيل ممن بدأ يفك الخط. إنها تأتي بعد ذروة التجربة ورباطة الجأش والترفّع عن الصغائر والمبتذل، بقوة العبارة والنظر الثاقب وسداد العقل وسماحة النفس وبحبوحة التباعد عن السفاسف ونفض القشور، لذا تحتاج إلى العقول الراجحة والنفوس الكبار، وأرقّ من النسيم خفةً ونداوةً وطراوة.
عندك الذاكرة الجمعية، زمن شاملٌ وواسعٌ تتشابك وتتفاعل فيه ظواهرُ ووقائعُ وقوى، هي صنعُ وثمرةُ أجيال وجَماعُ أزمنة وحصيلة ُصراع طبقات ومصالح، ومحصلةُ ثقافات، هي التاريخ بمعناه العام، ولكن أيضا تتخصص في وحداتٍ وبؤر ومنظوماتٍ تهيمن فيها فئاتٌ تكون لها الغلبة في مواقع الحكم ومضمار صنع القرار، هي من تُفتي بما يجب أن يبقى وما ينبغي أن يزول، يمكن للإيجاد أن يكون عندها سهلا مثل المحو يتم بجرّة قلم، لا تحفل عادة بالأفراد رغم أنهم رأسمال بشري أساس فيها لتُغِّلب إرادةً وتصوراتٍ تضعها في مقام التقديس، وويلٌ لمن يَسِمها بأقل وصمة تدنيس، أما المؤرخون فتطحنهم بين رحاها تستميلهم تارة وأخرى تتركهم في متاهات الجمع والتصنيف والتأويل، وهؤلاء عموما إنما يلاحقون ذاكرة مضطردة النسيان فيتحصّل بين أيديهم الغبار، لأن التاريخ، الذاكرة الحقيقية، الباقية، كما هو مشتهر، يصنعها المنتصرون لا المثقفون، سُحقوا أمس، واليوم شرذمةٌ ومأجورون يعملون وفق الطلب، ومن تشبث بحقه في النبش والتوثيق والتسمية تحامتهُ العشيرةُ كلُّها وأُفرِدَ إفرادَ البعير المعبّد!
ما يُحيّرني بالأحرى أشعر معه بالامتعاض هو حين يتذاكى فردٌ أو جمعٌ ويضع يده على هذه الذاكرة في النهار الجهاّر يحتكرُها لنفسه ويستخدمُها بضاعة يطوف بها في المحافل والأسواق ويعرضُها عرض المزايدة على جمهور يظنه من الحمقى والمغفلين، ضارباً عرض الحائط أنه يتصرف في إرث جماعي، في تراث أمة أو شعب أو حزب، ولو أراد الإنصاف والخُلق الحسن لأخذ وأُعطي ما يستحق نصيبا لا أن يضع اليد غصْباً على ما تكاثفت سواعدُ وعقولٌ وهِممٌ وشهداءُ لأشادته، فيستحل دمهم ويرتقي سلالمه إلى سماء ما أعلاها وأجلّها من سماء.
للذاكرة الجماعية عند الشعوب رمزيةٌ ومهابةٌ لا تكاد تقلّ عن قداسة الأديان، وهي موشومةٌ، منقوشة، مدبوغة في العقل والبشرة والوجدان، مكتوبةٌ وشفويةٌ ومرويةٌ ومُغنّاةٌ وتمشي في الطرقات، وتثب مثل وعل بين النظرة والإشارات، كثيفة وأراض صلبة، وخفيفة برقٌ خُلّب، هي لي ولك، ولكن قيمتها الحقيقية ودلالتها المفحِمة هي في أن تنطق باسمنا جميعا وننتسب إليها هوية مشتركة، من غير أن نتخذها دينا أو نعبدها صنما. ولن أبحث عن المثال بعيدا، حسبي نطاق الجريدة التي يتسع لصدرها هذا الكلام، حزب الاتحاد الذي أنجب من رجاله ونسائه المناضلين والمناضلات، منذ تأسس تاريخ مديد من التضحيات، هم فخر ليس له وحده بل للمغرب كله وأبعد، ذلك أن شعبا لم تقده زعامات، ولم تتعرض لامتحان الأيام وتدفع الثمن الباهظ، سيعد خامل الذكر ويُحسب في عداد الهوان والاستسلام، والاتحاد أعطى المهدي بن بركة جثمانه ما زال يبحث عن قبر في الثرى ليستريح؛ وعمر بن جلون، دمه رقراق لا يفارق عيني مذ رأيته بأم العين مُسجى على الرصيف بطعنة الغدر؛ وعبد الرحيم بوعبيد، القائد الحداثي الخارج من أحشاء الشعب وأراد وعمل من أجل ينال استقلاله كاملا باستحقاق ورحل وفي نفسه مرارات وكثير من حتى.. انتهاءً بعبد الرحمن اليوسفي الذي نعلم جميع أنه خاطر بهذا التراث لكن من أجل الرِّهان على مستقبل الديموقراطية وإنقاذ البلاد من المجهول، ورحل مثلهم جميعا مخلصا، نقيّ السريرة، لا يملكون شروي نقير وبينهم شعب ما زال على أهبة النفير. لذا، لا يحق لأحد أن يُحوّل هذا التراث العظيم، هذه الذاكرة الوطنية النضالية إلى رصيد شخصي وريع في أي مزاد، الاتحاد والذاكرة المغربية ما هي للبيع والشراء، هي رسالة للوفاء.
لم نعلم في من تربينا عليهم وطنيين ومن رعيلنا من المناضلين لصوصا ومحتالين غاصبين، ولا كذابين مدعين، رغم ما تجر إليه السياسة أحيانا من مكر وتناور من طبيعتها. وتعلمنا كذلك أن الوطنيّ والمناضل مثابرٌ مخلص لقضيته مهما كلفه. دأبه العمل وخصمُه الكلام بلا طائل، وبذا فهو صموت إلا للضرورة، والتواضع خصلة على جبينه. كلّ واحد منهم بنى شخصيته بفعله وقبس من الآخرين الأصلاء القدوة، حين تتقابل عيونهم يرون بعضهم في مرآة الحقيقة الكشافة. فليعلم كل واحد اليوم من الكذابين والمحتالين والمتاجرين بطريقة أو بأخرى بذاكرة شعب وتضحيات ومبادئ حزب وسيرة أفذاذ راحلين أن شواهد قبورهم ليست عزلاء في مقابر مهجورة، نحن أسلافهم ورفاقهم نحملها ونمشي بها مشيَ المسيح في طريق الآلام. لا بأس لينزف دمنا حتى آخر قطرة، لكن لن يخلو لهم الطريق وسنبقى نحدق فيهم بغضب واحتقار. ليعلموا أن للهزل حدودا هذا سمج ودمهم ثقيل والنظر إلى وجوههم الأقنعة يبعث على الغثيان. أدوارهم مكرورة مملة، ورقصهم لا يُسلّي، وألسنتهم عجبا كيف طفرت من الجريد والجريدة والدارة الجرداء أمس، لتزهو وتزّين بالخريدة وتعلم الأشراف أصول العقيدة، بينا نحن الناجين من كل هذا القرف، المعلقين على حافة الهاوية، نعلم ونحب أن نذكّرهم أن الحياة ملهاة، إنما لا بد أن نلعبها بجد، ونحترم دائما ذكاء الآخرين.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 08/12/2022