حين يُهدي التلاميذ أساتذتهم المحبة مغلفة في ورق الشوكولاطة
خديجة مشتري
لا شك أن الكثير منا صادف خلال تصفحه لمواقع التواصل الاجتماعي تلك الفيديوهات التي تظهر تلاميذ أو طلبة يعبرون عن محبتهم وتقديرهم لأساتذتهم واعترافهم بفضلهم عن طريق إهدائهم شوكولاتة، وحلوى، وورودا، وهدايا مختلفة. قد يقدم بعضهم قالب سكر، تعبيرا عن المحبة وإضفاء للبهجة والسرور على هذه اللحظات المتميزة بين الأستاذ وتلاميذه.
المفاجآت التي يتفق عليها التلاميذ مسبقا غالبا ما تترك الأستاذ أو الأستاذة في حالة من الذهول، بل قد تنهمر دموعهم تأثرا بهذه المبادرة الطيبة. بالمقابل، هناك من لا يتقبل هذه المفاجأة رغم معناها العميق، في نظر التلاميذ، فيعمد إلى وقف هذا السيل من الهدايا التي ترد عليه من كل جانب، وهذا حقه، أو قد يهدد بكتابة تقارير للمجالس التأديبية، معتبرا أن ما يقوم به تلامذته ليس سوى رشاوى ومحاباة وتضييعا لوقت الدرس الثمين.
هذا «التراند/ التحدي» المنتشر بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، والذي حصدت الفيديوهات التي تصوره آلاف المشاهدات لم يقتصر على المدارس الابتدائية أو الإعدادية، وعلى بلد دون آخر، بل لاقى نجاحا في كثير من الدول العربية كما امتد إلى الجامعات أيضا حيث كان للأساتذة المحبوبين والقريبين من طلبتهم نصيب من هذا التقدير والاحترام والهدايا البسيطة التي تصلهم من كل صف وطاولة.
شخصيا، لا أنكر تأثري بهذه المبادرات، ردة فعل بعض الأساتذة أنزلت دموعي أنا أيضا. أعتبر هذه اللفتات أقل ما يمكن تقديمه لمن علمنا وربانا، وكان له الفضل في وضعنا على سكة الحياة والمستقبل بفضل تضحياتهم ونكران الذات الذي ميز الكثير منهم، وربما سيساهم هذا «الترند» الجميل، في ردم الهوة التي تشكلت بين التلاميذ والأساتذة. كما قد يكون له الفضل في محو تلك الصورة النمطية التي يحملها البعض عن أساتذة صارمين مكشرين، ينصبون بينهم وبين تلاميذهم حواجز صعبة الاختراق بل إن هذا الحاجز منتصب أيضا بينهم وبين أولياء الأمور خصوصا منذ الإضرابات الأخيرة للأساتذة…
قبل سنوات مضت، كان للأستاذ هيبة وسلطة لدرجة أن التلميذ قد يغير خط سيره إذا رأى أستاذه قادما من الجهة الأخرى، بل قد لا يجرؤ حتى على الالتفات أو القيام بأي حركة في حضوره، وربما يقطع أنفاسه حتى. كان هذا الاحترام حدّ الخوف ناتجا عن الطرق التعليمية الصارمة التي كانت تعتمد في ذلك الزمن، حيث تحولت المدارس إلى شبه ثكنات عسكرية ينتشر فيها العقاب الجسدي ويفرد لأداته الأولى مكانا فوق مكتب الأستاذ إلى جانب الدفاتر والكتب، كما كان لغياب التواصل والحوار بين الأساتذة والتلاميذ، الأثر الكبير في حفر خندق كبير بينهما إلا في ما ندر، كما أنه احترام قائم منذ القدم، خص به المغاربة الأستاذ والفقيه في المسيد، الذي كان يتمتع في المجتمع المغربي، بمكانة خاصة، وكانت الهدايا التي تقدم له كل أسبوع تعبر عن التقدير لكل ما يقوم به من عمل مضن في سبيل تعليم الأبناء وتشذيب أخلاقهم، كما كان «عرس القْران»، أي حفل ختم القرآن، مناسبة ليس لتكريم الطالْب الحافظ لكتاب الله فقط بل لشكر فقيهه وتبجيله وتقديم أغلى الهدايا إليه …
بالعودة إلى الصورة النمطية عن الأستاذ والتي غلبت عليها السلبية في كثير من الأحيان فقد فتحت لنا هذه المقاطع على منصات التواصل الاجتماعي نافذة صغيرة أطللنا منها على هذه اللحظات الإنسانية الجميلة المؤثرة، وتعرفنا على نوع آخر من الأساتذة : أستاذ في خضم إلقائه لدروسه تتوجه إليه إحدى التلميذات (أو أحد التلاميذ)، بكل براءة ودون خوف أو وجل، تطلب منه أن يفرد راحتيه ويغمض عينيه وأن يجلس على كرسيه، فيمتثل لها بكل عفوية وتواضع بعيدا عن أي تسلط أو غضب، ثم يبدأ سيل الهدايا المنهمر على يديه مثل ماء رقراق، جدول متدفق يحمل فضلا عن الشكولاطة والحلوى والهدايا، معاني الحب والمودة والتقدير من تلامذة صغار إلى أستاذ يعتبرونه رمزا للعطاء ونبراسا للمعرفة، أستاذ منحهم كل ما يملكه من علم واحترام فمنحوه بالمقابل محبتهم وتقديرهم، أستاذ يستقبل عناقات تلامذته كما يستقبل عناقات أبنائه، ويشكر لهم هذه الخطوة الجميلة بكل تأثر إنساني وزخم عاطفي تفرزه لحظة استقطعت من زمن الدرس والتحصيل لتنشر على الجميع نسمات من المودة الصادقة والعرفان بما يمثله ذلك الأستاذ في حياة التلميذ، نسمات تطرد سحب عدم الفهم وتحطم الحواجز المنتصبة بينهما، لتأتي دموع الفرح المنسابة من أعين المحتفى به فتمحو كل صورة قديمة سلبية متجهمة وترسم لوحة جديدة مليئة بألوان الأمل والتفاؤل…
أذكر أساتذتي ومعلماتي في جميع مراحل تعليمي، خصوصا في المدرسة الابتدائية بالحي المحمدي. في تلك الفترة، لم يكن بمقدورنا القيام بمبادرات كهذه، فقد كانت هيبة الأستاذ وسلطته تمنعنا من الاقتراب أو التصرف بمثل هذه العفوية التي أصبحت شائعة اليوم، ولكنهم كانوا نعم الأساتذة تكوينا وتعليما وثقافة عامة واطلاعا، حببوا إلينا القراءة والمطالعة وعرفونا على أدب عالمي وعربي ونظموا مسابقات ثقافية ورياضية في المناسبات الوطنية والدينية، مسابقات كانت لنا عيدا وفرحا ومنبعا للمعرفة وبساتين نقطف منها ورود المعلومات والمعرفة المختلفة، خصوصا للمتفوقين منا، الذين كانوا يحصلون على كتب وقصص وروايات وقواميس باللغتين العربية والفرنسية، وقبل الجوائز كان التشريف والزهو والخيلاء بالفوز بإحدى المراتب الأولى. اليوم بمناسبة هذا «الترند» العجيب، الذي جاء بمبادرة من التلاميذ والطلبة، لا يسعني وقد باعد الزمان بيني وبينهم إلى أن أوجه إلى كل واحد منهم أصدق عبارات الامتنان والتقدير، لكل واحد منكم وردة حب ومودة.
هذا «الترند» بقدر ما يعبر عن رسالة سامية مفادها أن الحب والتقدير والثقة هما أجمل ما يُمنح لأهل الفضل علينا، لا من التلاميذ فقط، بل منا نحن أيضا، الأجيال التي غادرت أقسام الدراسة لكنها لم تنس أبدا مدرسيها، لا يجب أن ينسي التلاميذ أن احترام الأستاذ واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لإظهار تلك اللحظات لا يكون فقط بتقديم الهدايا بل أيضا بالقطع مع التصرفات المشينة التي تؤثث مدارسنا، بالقطع مع الغش في الامتحانات، ومع حالات الاعتداءات الانتقامية على الأساتذة سواء اللفظية أو الجسدية، بالحفاظ على تجهيزات المدرسة ومحيطها سليمة دون كسر ولا تحطيم متعمد، بعدم ملء جدرانها بالعبارات البذيئة والنابية، باستعمال الأشياء الموجودة بمرافقها بمسؤولية وعقلانية، وبالالتزام بالقوانين والأنظمة التي تساهم في جعل المدرسة بيئة آمنة ومريحة للجميع. الأهم من ذلك، بالاحترام المتبادل بين التلامذة، والأساتذة، والإدارة ، مما يعزز قيم التعايش والتعاون داخل فضاء المدرسة، الذي يُعدُّ أساس بناء مجتمع واع ومتحضر .
لا شك أن الكثير منا صادف خلال تصفحه لمواقع التواصل الاجتماعي تلك الفيديوهات التي تظهر تلاميذ أو طلبة يعبرون عن محبتهم وتقديرهم لأساتذتهم واعترافهم بفضلهم عن طريق إهدائهم شوكولاتة، وحلوى، وورودا، وهدايا مختلفة. قد يقدم بعضهم قالب سكر، تعبيرا عن المحبة وإضفاء للبهجة والسرور على هذه اللحظات المتميزة بين الأستاذ وتلاميذه.
المفاجآت التي يتفق عليها التلاميذ مسبقا غالبا ما تترك الأستاذ أو الأستاذة في حالة من الذهول، بل قد تنهمر دموعهم تأثرا بهذه المبادرة الطيبة. بالمقابل، هناك من لا يتقبل هذه المفاجأة رغم معناها العميق، في نظر التلاميذ، فيعمد إلى وقف هذا السيل من الهدايا التي ترد عليه من كل جانب، وهذا حقه، أو قد يهدد بكتابة تقارير للمجالس التأديبية، معتبرا أن ما يقوم به تلامذته ليس سوى رشاوى ومحاباة وتضييعا لوقت الدرس الثمين.
هذا «التراند/ التحدي» المنتشر بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، والذي حصدت الفيديوهات التي تصوره آلاف المشاهدات لم يقتصر على المدارس الابتدائية أو الإعدادية، وعلى بلد دون آخر، بل لاقى نجاحا في كثير من الدول العربية كما امتد إلى الجامعات أيضا حيث كان للأساتذة المحبوبين والقريبين من طلبتهم نصيب من هذا التقدير والاحترام والهدايا البسيطة التي تصلهم من كل صف وطاولة.
شخصيا، لا أنكر تأثري بهذه المبادرات، ردة فعل بعض الأساتذة أنزلت دموعي أنا أيضا. أعتبر هذه اللفتات أقل ما يمكن تقديمه لمن علمنا وربانا، وكان له الفضل في وضعنا على سكة الحياة والمستقبل بفضل تضحياتهم ونكران الذات الذي ميز الكثير منهم، وربما سيساهم هذا «الترند» الجميل، في ردم الهوة التي تشكلت بين التلاميذ والأساتذة. كما قد يكون له الفضل في محو تلك الصورة النمطية التي يحملها البعض عن أساتذة صارمين مكشرين، ينصبون بينهم وبين تلاميذهم حواجز صعبة الاختراق بل إن هذا الحاجز منتصب أيضا بينهم وبين أولياء الأمور خصوصا منذ الإضرابات الأخيرة للأساتذة…
قبل سنوات مضت، كان للأستاذ هيبة وسلطة لدرجة أن التلميذ قد يغير خط سيره إذا رأى أستاذه قادما من الجهة الأخرى، بل قد لا يجرؤ حتى على الالتفات أو القيام بأي حركة في حضوره، وربما يقطع أنفاسه حتى. كان هذا الاحترام حدّ الخوف ناتجا عن الطرق التعليمية الصارمة التي كانت تعتمد في ذلك الزمن، حيث تحولت المدارس إلى شبه ثكنات عسكرية ينتشر فيها العقاب الجسدي ويفرد لأداته الأولى مكانا فوق مكتب الأستاذ إلى جانب الدفاتر والكتب، كما كان لغياب التواصل والحوار بين الأساتذة والتلاميذ، الأثر الكبير في حفر خندق كبير بينهما إلا في ما ندر، كما أنه احترام قائم منذ القدم، خص به المغاربة الأستاذ والفقيه في المسيد، الذي كان يتمتع في المجتمع المغربي، بمكانة خاصة، وكانت الهدايا التي تقدم له كل أسبوع تعبر عن التقدير لكل ما يقوم به من عمل مضن في سبيل تعليم الأبناء وتشذيب أخلاقهم، كما كان «عرس القْران»، أي حفل ختم القرآن، مناسبة ليس لتكريم الطالْب الحافظ لكتاب الله فقط بل لشكر فقيهه وتبجيله وتقديم أغلى الهدايا إليه …
بالعودة إلى الصورة النمطية عن الأستاذ والتي غلبت عليها السلبية في كثير من الأحيان فقد فتحت لنا هذه المقاطع على منصات التواصل الاجتماعي نافذة صغيرة أطللنا منها على هذه اللحظات الإنسانية الجميلة المؤثرة، وتعرفنا على نوع آخر من الأساتذة : أستاذ في خضم إلقائه لدروسه تتوجه إليه إحدى التلميذات (أو أحد التلاميذ)، بكل براءة ودون خوف أو وجل، تطلب منه أن يفرد راحتيه ويغمض عينيه وأن يجلس على كرسيه، فيمتثل لها بكل عفوية وتواضع بعيدا عن أي تسلط أو غضب، ثم يبدأ سيل الهدايا المنهمر على يديه مثل ماء رقراق، جدول متدفق يحمل فضلا عن الشكولاطة والحلوى والهدايا، معاني الحب والمودة والتقدير من تلامذة صغار إلى أستاذ يعتبرونه رمزا للعطاء ونبراسا للمعرفة، أستاذ منحهم كل ما يملكه من علم واحترام فمنحوه بالمقابل محبتهم وتقديرهم، أستاذ يستقبل عناقات تلامذته كما يستقبل عناقات أبنائه، ويشكر لهم هذه الخطوة الجميلة بكل تأثر إنساني وزخم عاطفي تفرزه لحظة استقطعت من زمن الدرس والتحصيل لتنشر على الجميع نسمات من المودة الصادقة والعرفان بما يمثله ذلك الأستاذ في حياة التلميذ، نسمات تطرد سحب عدم الفهم وتحطم الحواجز المنتصبة بينهما، لتأتي دموع الفرح المنسابة من أعين المحتفى به فتمحو كل صورة قديمة سلبية متجهمة وترسم لوحة جديدة مليئة بألوان الأمل والتفاؤل…
أذكر أساتذتي ومعلماتي في جميع مراحل تعليمي، خصوصا في المدرسة الابتدائية بالحي المحمدي. في تلك الفترة، لم يكن بمقدورنا القيام بمبادرات كهذه، فقد كانت هيبة الأستاذ وسلطته تمنعنا من الاقتراب أو التصرف بمثل هذه العفوية التي أصبحت شائعة اليوم، ولكنهم كانوا نعم الأساتذة تكوينا وتعليما وثقافة عامة واطلاعا، حببوا إلينا القراءة والمطالعة وعرفونا على أدب عالمي وعربي ونظموا مسابقات ثقافية ورياضية في المناسبات الوطنية والدينية، مسابقات كانت لنا عيدا وفرحا ومنبعا للمعرفة وبساتين نقطف منها ورود المعلومات والمعرفة المختلفة، خصوصا للمتفوقين منا، الذين كانوا يحصلون على كتب وقصص وروايات وقواميس باللغتين العربية والفرنسية، وقبل الجوائز كان التشريف والزهو والخيلاء بالفوز بإحدى المراتب الأولى. اليوم بمناسبة هذا «الترند» العجيب، الذي جاء بمبادرة من التلاميذ والطلبة، لا يسعني وقد باعد الزمان بيني وبينهم إلى أن أوجه إلى كل واحد منهم أصدق عبارات الامتنان والتقدير، لكل واحد منكم وردة حب ومودة.
هذا «الترند» بقدر ما يعبر عن رسالة سامية مفادها أن الحب والتقدير والثقة هما أجمل ما يُمنح لأهل الفضل علينا، لا من التلاميذ فقط، بل منا نحن أيضا، الأجيال التي غادرت أقسام الدراسة لكنها لم تنس أبدا مدرسيها، لا يجب أن ينسي التلاميذ أن احترام الأستاذ واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لإظهار تلك اللحظات لا يكون فقط بتقديم الهدايا بل أيضا بالقطع مع التصرفات المشينة التي تؤثث مدارسنا، بالقطع مع الغش في الامتحانات، ومع حالات الاعتداءات الانتقامية على الأساتذة سواء اللفظية أو الجسدية، بالحفاظ على تجهيزات المدرسة ومحيطها سليمة دون كسر ولا تحطيم متعمد، بعدم ملء جدرانها بالعبارات البذيئة والنابية، باستعمال الأشياء الموجودة بمرافقها بمسؤولية وعقلانية، وبالالتزام بالقوانين والأنظمة التي تساهم في جعل المدرسة بيئة آمنة ومريحة للجميع. الأهم من ذلك، بالاحترام المتبادل بين التلامذة، والأساتذة، والإدارة ، مما يعزز قيم التعايش والتعاون داخل فضاء المدرسة، الذي يُعدُّ أساس بناء مجتمع واع ومتحضر .
الكاتب : خديجة مشتري - بتاريخ : 28/12/2024