حَجْرُ الأبدان أم حَجْزُ العقول، أيّهما أهْوَل؟
أحمد المديني
مضى الآن عام كامل بالتمام على ظهور فيروس كورونا، المسمّى كوفيد 19، وانتشاره بالتدريج في أنحاء المعمور، ومعه انتقال البشرية إلى نظام عيش شُلّت فيه جميع مرافق الحياة، إن لم نقل كلّها، وحصد منذ ظهوره عشرات الآلاف من الأرواح لم يوفر أيّ عمر، مسبّباً نكباتٍ إنسانية، بعد الخراب الهائل الذي جرّه على اقتصاد العالم وعواقبه من بطالة وإفلاس وتوقيف للتعليم، وباختصار عطبٍ شبه تام لنشاط ومعنى الإنسان في هذا الكوكب، حتى بدا لبعض أن إرسال نازا لمركبتها الأخيرة (روفر) مسعى عاجل لتوفير إقامة لشعوب مؤهلة بعد شعور باليأس من إمكان الاستمرار في العيش فوق هذا الكوكب الذي أتلفه الإنسان.
في بدايات ظهور الوباء انصبّ الاهتمام على آثاره السريعة المباشرة، قوته الضاربة بالموت، ووسائل التصدي لما بدا حتميا ضاريا لا يحتاج إلى تقارير الخبراء والأطباء لتأكيده، فالمستشفيات تكتظ، والأرض تبلع، لم تعد المقابر إلا حُفرا متجاورةً مُعّدّةً من قبل، والحزن غيمة سوداء تجثُم على النفوس، ويا للمفارقة الفاجعة، لا يخلّف الموت حزنا أو رعشة، بالكاد.أذكر أننا في بداية المأساة، لمّا بدأ التسابق إلى الكمامات، لم يستح ناس فتاجروا فيها كما يُتاجر عادة تجار الحروب في البشر، ولم يك إلا انجُ سعد فقد هلك سعيد، ترِد إلينا الأخبار ولا نصدق أن فلانة أو علانا قد أصيب. أذكر أن صديقنا المحبوب محمد عبد الرحمان برادة الإعلامي ومؤسس سبريس المعروف، كان من أوائل المصابين، ونحن صحبه القدامى من السبعينيات فضلا عن اللاحقين، لم نفهم أن يصاب رجل بلياقته وسلامته الجسدية، وكذلك بصفاء سريرته، ففزعنا غير مصدقين نسأل قد انخلعت قلوبنا ولا مجيب، كأن السماء سقطت فوق رؤوسنا، وحين لم يأتنا الجواب أولا قلنا إنها مهلكة، ثم لطف الله به فاسترجعنا الأنفاس. ثم كرّت السبحة وإذا موكب التشييع له رأس ويمتد بلا آخر، وما زال طويلا تتوالى فيه لحودُ أقارب وأحباب وأصحاب، وصرنا على مضض نسمع النّعي تلو النعي، ومن مقت وسخرية الأقدار بتنا لا نرجف حزنا ومن أين الدمع، ثمة الأهول، أن يتخطف الموت الأب والزوج والأخت وبين الفقيد حجاب، ليس لك حتى أن تذرف دمعة، أن تقرأ سورة، أن تلقي تلك النظرة الأخيرة، حذار أن تقرب الميت، صار كالجيفة مصدر عدوى، وأنت إياه إن دنوت؛ فيا له من موت جبار!
كان ذلك في البدايات، وها دار عام، والحياة والموت حولهما يدور، قنص الأحبة، وعزّ فيه الحب، بل الرزق، غاب السرور. أن ترى نجوم الظهر ولن تفوز بقبلة الحبيب. ينبغي أن أكف عن بؤس العواطف وأنتبه للعواقب، فالإنسان حيوان عاقل، هكذا فكرت ذهنيات في الغرب الأوروبي مبكرا تنتبه أن وضعية الوباء ليست عارضة وعابرة، وأنها بالهزات هذه تستدعي التفكير في كيفية التعايش، أولا، ثم العيش ثانيا في ديمومته، وهذا نوع من الحياة شرع فعلا يستقر، بأمل النجاة بالتلقيح أو بدونه، وإلا هل البشرية، أعني العقول المفكرة فيها، من الغباء لتستمر في استنساخ أنماط الحياة والإنتاج والعلاقات والمبادلات، لا باعتماد حلول ظرفية من قبيل العمل والتعليم عن بعد، مثلا، بل في التفكير في ما هو ضروري حقا للإنسان، وما يجدر أن يبقيه ويتخلى عنه، بعد إذ بد الموت قد أصبح (عملا شاقا) الحياة أشد شقاء.
Bruno Latour من المفكرين الفرنسيين الجدد، وجه لامع اليوم في المنبر الفلسفي الذي شحّ، انخرط في مشروع التأمل لما ينبغي أن يصبح عليه غدنا منذ اليوم، بكتابه الصادر حديثاً: « Ou’ suis-je ?»(la découverte)،(أين أنا) وبعنوان فرعي (دروس في الحجر لفائدة سكان الأرض). عند لوتور أنه من بدء التجربة الرهيبة للحجر، فإن الدول والأفراد ما فتئوا يبحثون كيف يخرجون منه، آملين العودة سريعا إلى عالم أمس واستئناف ما انقطع، والحال، يرى، هناك طريقة أخرى لاستخلاص الدروس من هذه المحنة، خصوصا من قبل الأرضيين الذين باتوا يشكون في أن الحجر سيُرفع يوما، لا سيما والأزمة الصحية تستفحل في أخرى أفدح، هذه التي ما فتئت تفرضها علينا التحولات البيئية. حسب لاتور، علينا إن استطعنا، أن نغتنم هذه السانحة وذلك بأن نفهم أين نسكن، أي أرض ستغلفنا، وإلا كيف نتطور على الطريقة القديمة، وفي العمق، على سكان الأرض البحث في الأرض المختلفة التي سيقيمون فيها منذ اليوم ويستعيدوا طعم الحرية والتفتح، لكن في مواقع أخرى.
واحد من أمثلة لا غير، وإلا فمن العبث أن نواصل الحياة مثل(حمار الطاحونة) كأن شيئا لم يكن. نعم، سيعود البشر للمصافحة، منهم للعناق، وللعادات اليومية والثقافة القديمة بإجمال، شأن سكان الأسكيمو باقون في خيامهم في القطب الشمالي، لا يقبلون بديلا عن نمط عيشهم، ببساطة، هكذا كان يقول لي أستاذي وصديقي محمد عابد الجابري وأنا أسأله لماذا يستعصي التغيير على الحكام والناس، فيجيبني بهدوء تام وشبه استغراب:»[طبعا] كي لا ينهار عالمهم!». أما الجابري فأمضى حياته حتى الرمق الأخير يهز قلاع الجمود الفكري في العالم العربي، ومن جيله وعلى هديه تعلمنا أن لا نبقى كما ولدنا نجتر ونتحمل ونكرر العام في القسم بغباء، لذلك حياتنا في كل مكان أجدر بأن تتغير بعد الوباء لكي نكون جديرين بالحياة وهذا الكوكب.
وهذا مختلف عما كان في رأس ودار على لسان سيدة مغربية قابلتها بالصدفة عائدة من القنصلية المغربية في الدائرة 15 بباريس. شمتني مغربيا بحدس الدم، وطلبت مني شيئا بصوت أجش سعدت بتلبيته وأنا أرى عينيها تسبحان في لُجّة دمع، وحدها فاضت في الكلام أنها وضعت (الأوراق) لتجديد الجواز وهي فرحانة بزاف وإن قلقة أن يتأخر. طمأنتها، لا تقلقي، أعرف موظفي القنصلية، إنهم جادون ومخلصون. فاضت وحدها(توحشت لبلاد بزاف، هدي عام ما مشيتَ!) وكذلك نشر كاتب مغربي مرموق في موقع رصين بنفس العنوان(توحشت بلادي)، وفي الفيس بوك الذي حوله سفلة إلى حاوية نُفايات استكثرت نُفاية جبانة ـ باسم مستعار، على صاحب القلم عبارته، ولم أكن أعرف أن هناك مخازنية على الأشواق، وأن حب الأوطان أو وصفها أو نقدها يحتاج إلى رخصة، هدّأته:» فسيكفيكهم لله»؛ زدت: إنه الوباء!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 10/03/2021