خريفٌ، وجفافٌ، فانتظارٌ، وأخيراً صورةُ مسخ!

أحمد المديني

1
لم أهوَ فصلا وزمنا وفضاء كالخريف. يلزم أن أعترف أوّلا بأن هذا الهوى احتاج إلى أزمنة وأمكنته وأهوائه لكي يبزغ كشعاع وضّاء من قلب سماءٍ مُثقلةٍ بالغيوم، ونفسٍ حُبلى بألف همّ. يعرف العشاق أن الحبَّ صاعق، لا يطلب الإذن، وسهمُه إذا سُدِّد نفّاذٌ في الحين. هذا النوع من العاطفة يمكن أن ينطفئ أيضا بالسرعة التي وُلِد بها ولو تَرك جُرحا ينزِف. بينما للخريف غواياتٌ واستدراج غانية تتدلل، ولا يُسلس القياد ويرتمي في آخر المطاف بين الأحضان إلا بعد اختبار عسير وتطَلُّبٍ للصبر لا يقدِرُ عليه إلا الراسخون في الإيمان بأن المُحبَّ لكي يُحِب لا بد يُبتلى، وعندئذ فقد صار في مهبّ الريح، كما أوراق الشجرُ إذا هجم الخريف.
2
هذا العام اختلف، كأنما القلب تلف. هو في موقعه المعلوم من الصدر، لكني كدت أنسى أين يقع، ومتى ينبض. منذ وقت لم أسمع ذلك الخفقان الدافق مثل شلالات إغواسو في الأرجنتين. منذ أوقات أنفخ في الرماد، لعل تحته جمرة لم تبرد ومنها سأقدح الزّناد، لنفسي ومن كان أحِبتي وهذي البلاد. ثم أفطن متأخراً أن خرَّت العماد، وتِباعاً هوت ورحلت الجياد، ومن ما تبقى أشباح في الفلاة أو خراتيت في المزاد. ثم أعود أفطِن متأخراً هذا كله ما عاد يهُم، ما بُني وهُدّم وغدا حتما سيُهدم، عند قوم لم يعشقوا الخريف أبدا، خطُواتُهم مسرعةٌ لا تتوقف هنيهات بين الليل والنهار، كي ترى العيون كيف يشيخ الاخضرار ويرقص الشجر بالأصفر.
3
هو العمر كله اختلف. ليست المواقيت وحدها ولا الوجوه التي كانت هنا باقية، تاركةً في نياط القلب ندوبا دامية. أسماءٌ تعبر تلو أسماء، باهرةً وُجِدت أو غُفلا سقطت شُهُبا وأقمارا هاوية. حلّ ما ظننته الخريف هذا العام، فذهبت إلي أشجاري المتوزعةَ بين ممرات وأجَماتِ متنزّه مارس Champ de Mars أراها كل يوم تقريبا فهي جارتي، لكن لقاءنا في هذا الفصل ذو طابع استثنائي، نقيم له طقوسا غير مرئية بالحوار والموسيقى وكلمات مشفّرة، حتى إن العابرين يرونني في حركات رقصة فالس يداي يظنّانها تُخاصِر الفراغ، بينما هما على جذع شجرة. نتهامس نحن اللذان نتحابّ، وتسكُب في أذني وصية الخريف.. قبل أن ترحل.
4
خلافا للمتوقع، لا تبثني الأشجان، تحرص إذ تدخل طور التعري والذبول على سمت الكبرياء، ما لا يملكه كثير بشر يتدهور في شيخوخة بائسة أو قبلها ومثلها تنحدر كرامته أسفل سافلين. الأشجار بسموقها ورسوخها وتفرّع جذورها شامخة، وفي باطنها نخوة لا يبصرها إلا من يقيمون في عرين الأزمنة، أي لا يحفلون بمرور أعوام وتداول الفصول للبشر والأيام، يجرون معهم حوادث الدهر، ومثلها أوراقها النضرة هي عينها إلى الخارج تسر الناظرين وإلى ظلالها يفيؤون، تُرى هل يسمعون حكمتها الثّاوية في الجذور تنطق بلغة وألوان اللّحاء. لا عجب أن قُدّست الشجرةُ عند شعوب وعُلقت علي أغصانها الرُّقَى والتمائم وطُلبت شفاعتها.
5
لا تحسبوا هذا معتقدَ وصنيعَ أقوام بدائية، عِلما بأن البدائية مرحلةٌ مؤسِّسةٌ في تاريخ وثقافة البشرية.إنه اعتقاد وتقدير الشعوب في كل زمان ومكان. قبل عامين كنت في شمال الأرجنتين وفي طريق جبلي توقف سائقي عند أجمة عظيمة في الطريق قال أمهلني دقيقتين فسرت خلفه يحمل بين يديه ما اعتبرته قربانا وضعه عند جذع شجرة تابونيا ذهبية لم يدّع كذبا هذا لأمي وهو شخصٌ متعلم، بعد أن استأنفنا الطريق باح كمن يكلم نفسه، هذا وفاءٌ للأجداد غرسوا وتركوا لنا الحياة ومع قرباني أضع بيزوات قصداً تأتي نساءٌ معوزاتٌ وتأخذها ويبقين راعيات بالتشذيب والنظافة ومنع أي حطّاب عشوائي من إعمال فأسه في شجرة الأجداد؛ فهمتَني الآن!
6
قبل شهر لا أعرف ماذا أصاب بلدية باريس الكبرى فأشهرت مصلحة البستنة فيها أنها ـ بسلامتها ـ ولأسباب ـ ستستأصل بضعة أشجار حول محيط برج إيفل وعمر هذه أعتقُ وأعرقُ من تأسيس عشرات الدول الممثلة اليوم في الأمم المتحدة ومنها من يتنطع للزعامة وقيادة الأمم. وبما أن الأرض لله ولخلقه ولدافعي الضرائب قامت القيامة ولمّا تهدأ من سكان المحيط وتضامن الحيّ كله، لم يكن هؤلاء بالضرورة من الخضر أنصار الحفاظ على البيئة وإنما أوفياءُ للأصل، للتليد، لمهابة الأرض وجلال الشموخ، لا حسابات ظرفية لتوسعة رقعة؛ كلاّ، قالوا لا يحق لأحد أن يقتلعنا من جذورنا، وقيل الأشجار تململت وصار لها حرّاسٌ أنا منهم!
7
قبل أسبوع أثناء نزهتي الصباحية في متنزّه مارس، سمعت مثل نحيب. ياه، تلفتت في كل اتجاه، ما هذا هديل ولا تغريد، فالطيور هاجرت مع نهاية شهر سبتمبر غِبَّ هجوم غاشم للبرد اضطر بعض معه لارتداء كنزات صوفية ومعاطف، طارت في موسم هجرتها إلى الجنوب حيث الدفء وتركتنا في وحشة قاسية، يوم ولا ترى طائرا أو تسمع تغريدا في السماء عارية، أي وحشة! فمن أين يأتي هذا النحيب الخافت أسمعه يتكرر فأخفّف الوطء لأتأكد أنه غير صادر من إحدى هلوساتي تتدخل في منامي وصحوي. كلا يا سادة، شخصت الأوراق في وجهي فزادت حيرتي، أوراق أشجار معلقة ومحترقة لم تسقط من عطش، تستغيث: ماء!
8
خريف هذا العام اختلف، إما خانني، أو خنتُه، أو كلانا إلى تلف. نظرت، لا غيمة في الأفق، السين بعد قليل سينضب، وأخشى يُقبل العام القادم ولا ثلج يرصّع شُرفتي بكرَزٍ من نُدف. شحٌّ في السماء وفي الأرض يباس، وأنا ما أنفكّ أداري إحساسي عبثا وأقول قريبا ستنبت في صدري حديقةٌ وتجري أنهار أسقي بها باريس والرباط وفاس، وأستعير من السياّب مقطوعته الأشهر أنشدها « ما مر عام[ والمغرب] ليس فيه مطر/ مطر، مطر، مطر». على حين غرّة سمعتْ نشيدي ملائكةٌ همستْ أبشِر، فأغدقت السماء، وتجلت لي ضاحكةً وهي تعضّ على العُنّاب بالبرَد، قالت: ويحك سحرتني فبلوتني إذا أمطرت سأقبل أن تكون الوسواسَ الخنّاس!
9
ومسك الختام هذه القصة:» اعتاد الولد أن يرتاد سوق الطواقي مع أبيه يريد أن يشتري له طاقية، لكنه يُمعن في البكاء رفضا قاطعا. ذات يوم وقد شبّ عن الطّوق بعد أن أمعن في الرفض، دخل إلى السوق فرآه مزدانا بطواقٍ موشّاة، وكلّ صاحب طاقية جالسٌ فوق مصطبة وعليه شان ومرشان وبلباس طيلسان. فتقدم من تاجر ليقتني واحدة لكنه رفض البيع، سأل الولد الذي صار رجلا أو الرجل الولد: لماذا؟ أجابه البائع أنت أهنتنا طويلا وعددتنا مهرّجين، فماذا غيّرك اليوم؟ ردّ الولد الذي أراد أن يصبح رجلا: أنتم فهمتموني خطأً، فقد كنت أحضّر (أطروحة) عن أفضل وأبدع طريقة لنسج وتزيين الطواقي، وهذا ما سأعرض عليكم، وسأحطّ عيّنتها الجديدة على رأسي، لم تخطر على قلب قرد، وضعتها خصيصا لتلائمني بعد أن مسخت كما ترى قردا،من قبل كنت ألبس طاقية إخفاء، وحان الآن وقت الظهور..وسكتت شهرزاد عن الكلام الفوّاح!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 09/11/2022