دورة لافتة في ظرف استثنائي

السفير محمد الاخصاصي

اتسمت أشغال «المجلس الوطني» لـِ»الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، في دورته الأخيرة، بمقاربة عميقة للتحديات التي تواجهها البلاد، كما تميزت برؤية رصينة للرهانات التي تسائلها، وبمسؤولية وطنية لدور القوى الوطنية، الديمقراطية، التقدمية، وفي صدارتها «الاتحاد الاشتراكي»، في اختراق جدار التحديات القائمة، واقتحام فضاء الرهانات الماثلة.
ولئن تميزت مداولات «المجلس الوطني» بتحليل دقيق لأوضاع البلاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وباستحضار واعٍ للأولويات الوطنية، تفاعلاً مع نبض الشارع، وتجاوباً مع المبادئ والقيم التي تحكم نضال «الاتحاد الاشتراكي» عبر مساره النضالي الطويل، باعتباره قوة دفع تقدمية، يسارية، اجتماعية-ديمقراطية تروم إصلاح وتطوير الأوضاع، والمساهمة في رسم خطوط المستقبل، ومناط تحول في المجالات كافة، السياسية والمؤسساتية والاجتماعية والثقافية – لئن اتسمت مداولات» المجلس الوطني» بكل ما تستحقه أوضاع البلاد من جدية متناهية في التحليل، ومسؤولية عالية في التوجه، فلأن مشروع التقرير السياسي الذي تقدم به الكاتب الأول للحزب أمام «المجلس الوطني» وضع أعضاء الحزب وأنصاره وجماهيره أمام التحديات العظام التي تواجهها البلاد على كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والمؤسساتية، كما وضعهم في صُلب المسؤوليات الوطنية والتاريخية التي تطرحها عليهم دقة الظرف الوطني، ومأزومية الحال الاجتماعي، وتهافتات الحقل الحزبي الوطني.
1/ ومن نافل القول التذكير – في هذا الصدد – بما بات يكتسي طابع البداهة والرتابة في الخطابات السياسية والاجتماعية، بل في تقارير مؤسسات الحكامة في البلاد، وهي خطابات وتقارير تُفصّل طابع الأزمة الاجتماعية التي تزداد تفاقماً، بالرغم من الجهود التي تبدلها السلطات العمومية للتخفيف من آثارها.
وفي هذا المضمار، فإن أوضاع الفقر والهشاشة التي تعاني منها قطاعات واسعة من الشعب في البوادي والحواضر، وحالة اليأس والقنوط التي تسكن فئات الشباب في ظل أوضاع البطالة، وعجوزات التكوين، واستمرارية التفارق والتباعد بين التكوين وسوق الشغل، ونقائص التغطية الاجتماعية التي تسائل الصحة العمومية بالبلاد، سواء على مستوى بنياتها المؤسساتية، أو على مستوى خريطة انتشارها مجالياً، وإشكالية تجويد المدرسة العمومية، التي تشكل مناط التعليم الأساسي الذي يشكل بدوره الأرضية الصلبة لنظام تربوي-تعليمي وطني، يبلور مقتضيات العِقد الدستوري، ويرسي مقومات انخراط أجيال المستقبل في منظومة التحولات التكنولوجية المتسارعة، عبر تأهيل قدراتهم ومهاراتهم على التجدد والتغير والتكيف مع التحديات المذهلة للتكنولوجيات الجديدة، كما يعزز أسس الانفتاح الفكري واللغوي المنضبط.
كما يُعدّد خطاب الأزمة، من جهة أخرى، مظاهر «الانغلاقات» و»المآزق» التي تصطدم بها مشاريع إصلاحية هامة، حيوية تتصل بالإطار التنظيمي-الإداري الذي يشرط دينامية التطور الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد.
وفي هذا الإطار يجمع المهتمون بمقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية على أهمية واستعجالية «الإصلاح الإداري» الذي من شأنه إرساء مصالحة الإدارة العمومية مع متطلبات التنمية الشاملة بصفة عامة، ومع متطلبات التنمية الجهوية بصفة خاصة، وذلك في اتجاه مواءمة بنيات وأخلاقيات الإدارة العمومية مع متطلبات تشجيع الاستثمار، وتعزيز شروط المبادرة الحرة، وتثمين اقتصاد السوق، في إطار من التفاعل والتكامل المنضبطين. وأمام جدية وحساسية هذه المعطيات، وغيرها، حرص «المجلس الوطني» لـِ»الاتحاد الاشتراكي» على تبليغ ثلاث رسائل في اتجاه المجتمع السياسي، والمجتمع المدني على السواء:
أولاها، أن عملية التشخيص والتوصيف التي يزخر بها، اليوم، الخطاب السياسي، وتطفح بها تقارير مؤسسات الحكامة، لم تعد كافية لطمأنة الرأي العام، ولا فعالة في تعبئة القوى الحية في المجتمع، بل ما هو مطلوب ومفروض أن يتوفر فواعل الحقل السياسي، المغربي على مشاريع ملموسة، وحلول ناجعة لإصلاح ومعالجة ما يُفرزه الواقع الوطني من إشكاليات، وما يطاله من عجوزات، إذ أن حكمة «التحليل الملموس للواقع الملموس»ليست في الحقيقة سوى مقدمة لمعادلة، يقوم طرفها الثاني على صياغة ما يقتضيه «الواقع الملموس» من حلول إجرائية لمأزومية الوضع، موضوع التحليل.
وفي هذا السياق الذي تحكمه إرادة الاقتحام، لا انهزامية الانكفاء، تندرج جملة من الاقتراحات العملية التي تضمنها التقرير السياسي للكاتب الأول لـِ»الاتحاد الاشتراكي»، في مجالات حيوية لصيقة بمعيش أفراد الشعب، سواء في المجال الاجتماعي أو في المجال السياسي والمؤسساتي..
أما الرسالة الثانية فإنها تتصل بواقع «الأغلبية الحكومية» التي ينخرط فيها «الاتحاد الاشتراكي»، بما تتخبط فيه من تجاذبات وتناقضات، تُوصف بـ»الأزمات»، وهو واقع يظل حاضراً في صميم الإشكالية السياسية التي تسائل بلادنا، وهو وضع يساهم في تلبيد مناخ الأعمال في البلاد، ويُغذي حالة من التشاؤم والترقب والانتظارية لما يُسفر عنه الغد من تطورات ومفاجآت…
ولما كانت التناقضات التي تفجرها التركيبة المعقدة للحكومة الحالية، لا تعكس خلافاً جوهرياً حول بنود البرنامج الحكومي الذي صادق عليه البرلمان، بقدر ما تترجم اختلالاً متواتراً في العلاقات بين بعض المكونات الحزبية للحكومة، علاقات يحكمها ما هو ظرفي، مصلحي، ولا تسمو إلى ما هو استراتيجي، فإن مرد ذلك يعود إلى أزمة زاحفة، تحاصر الحقل الحزبي ببلادنا، وذلك في ظرفية دقيقة، تتطلب من قواها السياسية التفافاً وطنياً حول الخيارات الرصينة، والتوجهات السديدة التي ما انفك عاهل البلاد يذكر بها في كل مناسبة وحين، آخرهما خطاب عيد العرش المجيد، وخطاب 20 غشت التليد…
ورفعاً لكل التباس لدى الرأي العام إزاء موقف «الاتحاد الاشتراكي» – الذي يوجد اليوم ضمن فريق «الأغلبية الحكومية» – بادر «المجلس الوطني» لـِ»الاتحاد الاشتراكي» إلى إعلان استهجانة للمفارقة الصادمة ما بين دقة التحديات التي تواجهها البلاد من جانب، وهجانة السجال الحزبي، المتكرر في صفوف «الأغلبية الحكومية» من جانب آخر. وهي الرسالة الثانية التي بعثت بها مداولات «المجلس الوطني» للحزب.
أما الرسالة الثالثة والأخيرة، وليست الآخرة، فإنها تجيب بكل مسؤولية وشفافية على تقولات وأزعومات بعض أطياف الحقل الحزبي التي تحاول التشكيك في صدقية موقف «الاتحاد الاشتراكي» لدى مشاركته في الحكومة الحالية، بل تذهب بعيداً في منطق التشكيك للنيل من طابعه الوطني، وهويته التقدمية وموقعه اليساري في خريطة الحقل الحزبي بالبلاد.
وإذا كنا لسنا في حاجة إلى تنبيه الغافلين عن ماضي الحركة الوطنية-التقدمية ببلادنا التي أفرزت قيادات وطنية، تقدمية شامخة، على مدى أزيد من سبعة عقود، من صنف الراحل عبد الرحيم بوعبيد، والشهيدين المهدي بن بركة وعمر بنجلون، وأمدت مسيرة التحرير والوحدة الترابية بأجيال متعاقبة من المناضلين الوطنيين، التقدميين، المتشبعين بالفكرة الوطنية، المستنيرين بالرؤية التقدمية، المتشبثين بالمقومات والثوابت الدستورية…، وإذا كنا لسنا في حاجة إلى تذكير دعاة التشكيك في القدرة اللامحدودة لـِ»الاتحاد الاشتراكي» على احتواء وتجاوز كل الكبوات النضالية، عبر مساره النضالي الطويل، وعلى كفاءته العالية في التكيف الإيجابي والمُنتج، مع حقائق البلاد، ومع مستجدات محيطها القريب والبعيد – فإنه لا يسعنا اليوم إلا أن ندعو هؤلاء الإخوة الذين يضيعون وقتهم في الجدل العقيم، غير المفيد للبلاد والعباد، أن يعيدوا قراءة تجربة «التياسر» في الجامعات المغربية، في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وما أحدثه من آثار مدمرة في صفوف الحركة الطلابية المغربية، وفي صفوف المنظمة الطلابية العتيدة: «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، وأن يوظفوا يساريتهم «المتقدمة» في تأطير شباب الغد، وفي المساهمة على تنشئتهم على مبادئ الوطنية الحقة، والتقدمية المثلى، وعلى قيم الأخلاقية السياسية.
وتلك هي الرسالة الثالثة التي حرص الكاتب الأول لـِ»الاتحاد الاشتراكي» على تبليغها، بكل مسؤولية وشفافية في تقريره إلى «المجلس الوطني».
2/ ويبدو لنا، أن مصدر ما يموج من تساؤلات، تظل مشروعة، حول موقف ودور «الاتحاد الاشتراكي» في مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، ومن أحكام قيمة، تظل عديمة المشروعية – راجع في الحقيقة إلى طغيان طوارئ المعيش النضالي، الداخلي للحزب على مفردات وثوابت المشروع المجتمعي الذي يحمله ويناضل من أجله.
وفي هذا المضمار، فإننا نعتقد، بكل صدق، أن اتجاه الخط السياسي الذي يحكم اليوم فعل ونضال «الاتحاد الاشتراكي» يرتكز على أرضية سياسية ذات أضلاع ثلاثة:
أولها، أن تقييم المرحلة السياسية والاجتماعية التي تجتازها بلادنا، في أعقاب ما بات يسمى بـ»الربيع العربي» (2011)، قاد ويقود إلى تدعيم وتعزيز الاتجاه الإصلاحي في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمؤسساتية، انطلاقاً من قناعتنا أن منهج الإصلاح ومنجزاته هو ضمانة حالة الاستقرار التي تنعم في ظلها بلادنا.
ثانيها، أن «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» يجد نفسه في الخيارات الاستراتيجية والتوجهات السياسية والإصلاحات الهيكلية التي يبشر بها جلالة الملك، ويحث عليها في كل مناسبة وحين، بل وينكب على الإشراف على أجرأة الكثير منها.
وقد شكل الإصلاح الدستوري الذي تم برعاية جلالته، فاتحة حاسمة لسلسلة الإصلاحات التي عرفتها بعد ذلك بلادنا في كل المجالات، وعلى كل الأصعدة. وبفضل هذه الإصلاحات العملاقة التي طالت أحوالنا بالداخل والخارج، أمكن لبلادنا أن تتبوأ المكانة التي تحتلها اليوم على الصعيدين الجهوي والدولي.
ثالثها، أن «الاتحاد الاشتراكي» الوفي لتاريخه الوطني، المتشبع بهويته التقدمية، المستند إلى جذوره الاجتماعية-الشعبية، ليشكل في عالم اليوم قوة سياسية، حداثية، تنخرط بوعي ومسؤولية في المساهمة في صنع مستقبل البلاد، عبر مراهنتها المتبصرة، السياسية والتنظيمية، على دور الشباب، ودور المرأة، ودور الأطر الوطنية، ودور القوى المنتجة في البلاد في استيعاب، التحولات الإنتاجية الجارية، واستدماج الثورات التكنولوجية المتواصلة.
وفي سياق هذا التوجه التقدمي، التنموي المندمج، تصبح مسائل التكوين، والاستثمار في الرأسمال البشري، والانفتاح المضبوط على المحيط الجيو-سياسي، قضايا مركزية في عالم، بات مُعولَماً تواجهه نفس الإشكاليات، وتوحده ذات المشاكل، سواء تعلق الأمر بالعلاقات الجديدة بين العمل والسوق، أو بين التنمية والبيئة، أو بين المحلي والخارجي في مجال ضبط الهجرة، والتعايش الإيجابي، المنضبط مع ابتكارات الذكاء الاصطناعي وغيرها من التحولات الجارية…
وفي ظل المرتكزات التي تجعل من «الاتحاد الاشتراكي» أداة إصلاح وتغيير في الحاضر ومناط تطوير وتحديث في المستقبل – فإن قدراته السياسية والفكرية على التكيف والرؤية البعيدة، ومؤهلاته النضالية والميدانية، لتجعل منه قوة فاعلة في حاضر البلاد ومستقبلها، كما كان وقود نضال وتغيير في الماضي البعيد والقريب.
وغني عن البيان أن هذه المحددات-المحركات الثلاثة، في بنيات الحزب، التحتية والفوقية، لتجعل من «الاتحاد الاشتراكي» القوة المجتمعية الأكثر انفتاحاً وتأهلاً للمساهمة بفعالية، في إنجاز الأوراش الإصلاحية، على قاعدة الجدلية الحية القائمة بين الإصلاح والاستقرار، في إطار مجتمع متماسك، متضامن ومتطور…

الكاتب : السفير محمد الاخصاصي - بتاريخ : 10/10/2018