زارَ معرضَ الكتاب بالرباط، فرأى، وسمِع، وقرأ

أحمد المديني
أقبل عليّ بشوشاً ومنشرحاً هو المتحفظ يزِنُ البسمةَ بالقسطاس. يجلس عادة طويلا ينتظر أن تبدأ أنت بالكلام وتُسهِبَ فيه قبل أن يجود في الأخير بالقول الفصل، أو يبلع ريقه معه الغصص. لسانُ حاله ينطق في كل مرة كم مُرّة هي الأحوال، ما عاد ثمّة ما يقال، والعاقل من يتحرّز في كلماته. إلا اليوم، فاض خاطرُه. الحق، استغلق عليَّ أمرُه، أستعجلُ ما خَطبُه. أخيرا، وهو يشير من باحة مقهانا عند الحي الجامعي أكدال، كنت هناك ـ يقصد حيث الخيام منصوبة والقيامة قائمة. زاد يُفصّل، والرباط مجتمعة، شيبا وشبابا. طالني العجب لأني أعرف صاحبي الأستاذ لا يطيق الجمع والزحام، وعدا طلابه وبعض الرفقة لا يختلط بالأنام، له عشيران فقط، الكتاب والمُدام. إلا اليوم، كذّب ظني، صرت الصَّموت وهو راوِية، وإليكم بعض ما روى:
قال: ذهبت ظهيرة هذا اليوم الأربعاء إلى المعرض الدولي للكتاب أغراني أنها المرة الأولى ينتظم بعاصمة البلاد، وزرته سابقا مرتين بالدار البيضاء. قصدت تلك الساحة الفسيحة حيث يقيمون مهرجانا موسيقيا اسمه موازين، ترصد له مئات الملايين يصخب الشباب له ويطربون. وجدت الولوج منظما ومتقنا، وسرت في ممر رحب طويل على جانبيه التّشييدات المنصوبة كبيرة وفارهة، أقرأ عناوينها أراها موزعة بين قاعات المحاضرات وفضاءات أجنحة الناشرين وأبهاء المؤسسات الرسمية وضيوف الشرف. طفقت أجول، أنتقل بينها أحيانا بصعوبة، فرغم أنه يوم عمل البشر كثير، ابتهجت لهذا أرى أبناء شعبنا إلى محفل القراءة والكتابة يتدافعون، بينما يغيظني أنهم يزدحمون بعشرات الآلاف في مدرّجات كرة القدم والهرج بأنواع، ويسلون محارب الفكر والتعليم والكتاب إلا بتقتير.
تابعت جولتي أنتقل من فضاء لآخر. أرى الجمهور يملأ قاعات يجلس فيها محاضرون ولا مكان لكرسي، فأيّ سعادة هذه وهم ينصتون ويدوّنون، فإن ضجّ الفضاء العام لا ينزعجون، هم شغوفون بالموقع الذي هم فيه، وبينهم طلاب لنا نعرفهم، وزملاء أساتذة هم المحاضرون. غيرهم يعبرون، في نوع من العطالة يتنزهون، ينحشرون في الممرات، قلت لا بأس، الفضولي اليوم قد يصبح قارئا غدا وسينقل لغيره ما رأى أن قوما غريبي الأطوار يقيمون مهرجانا للكتاب بدل أن يصخبوا في التهريج ويتفرغوا للدجل والكذب والنميمة في باحات مقاهي البلاد طولا وعرضا بضفتيها أطلسيا ومتوسطا. وهذا النشء الذي يتضايق منه باعة الكتب هو وعد القراءة. لكني وأنا أنتقل بين القاعات والأجنحة أريد أن أغنم أكثر من عرس الكتاب البهيج لاحظت أشخاصا بين نساء ورجال هم أنفسهم تقريبا يتنقلون وإما أنهم يتشابهون، أرى السيدة والسيد فأقول إني سمعتهما يقدمان أو بلغتهما(يتدخلان) هنا وهناك، أشكل عليّ الأمر لولا الهندام والصوت لم يتغير، فأشعر تجاههما بكثير من التبجيل لقدرتهما عل القول في كل فن وعلم وبنبرة صافية ووجه ضحوك، دائما. وقد سدرت في نظرتي لولا أستاذ زميل صادفته وعرضت عليه استغرابي لسذاجتي ففطّنني يُعْلِمني أنيّ وإياه من قوم غفلون، أي من المدرسة الكلاسيكية أو البائدة في الثقافة، عربية وفرنسية وإنجليزية، أيضا. قال لا فُضَّ فوه/ اليوم يا أخ العرب والأمازيغ الصواب هو ما نراه الزيغ. ليست الثقافة هي الموضوع والمادة ولكن الوعاء، وهذاـ أفِق خفيفَ الظل ـ إطارُها وكيفيةُ تسويقها وباصطلاح القوم الجدد (الصناعة الثقافية) يقال إته علم تشيب في تعلمه ولفهمه الولدان. ومن ضرْبِه فن أو علم ـ الله أعلم ـ المتعهد الأدبي والثقافي، عامة، وهذا يجعل الذكر والأنثى يرحمك الله يتولى ترويج البضاعة ويضمن كما في أي شركة خدمة ما بعد البيع، لذا تجدهم في مواقع شتى ملء الشروق والغروب، وسبحان واهب المواهب والعطايا. شكرته وواصلت جولتي لم أفهم كوع كلامه من بوعه.
بعد لأي وقد تنقلت بين الأجنحة ودخلت وخرجت فوجدتني في هذه الأوضاع المختلفة أشاهد أناسا يتجمعون حول بعضهم وهو يلتقطون الصور وتُلتقط لهم بتكرار وتبديل متناوب للابتسام والنظرة والالتصاق والموقع حسِبتهم يمثلون يُعجبني تصوير الأفلام وجاء مثلي متفرجون أحطنا بهم وصفقنا في نهاية التصوير فشكرونا ولم يكن من يحمل كاميرا أفهمني واقفٌ أن هذا فن سينمائي جديد، يشارك فيه كل من زار معرضا أو حفلا ليضمن لنفسه التألق، ولذلك تجدهم في الفيس يتبادلون التهاني والدعاء ب» لك مزيد التألق»، زاد قائلا، شوف السي، أش سمّاك الله؟ أيّوب، متشرفين، نحن في معرض الكتاب، وكثير من هؤلاء لا يهمّهم الكتاب بالدرجة الأولى، ولا ما يكتبون، همُّهم أن يتألّقوا، هم وزوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم، لذلك يتدبرون أمرهم فيحضرون أزواجا وعائلات وإخوة وأقارب، ومنهم من يناجي نفسه بوسيط والوسيطة تتعدد وتتكاثر وتُرى تسوح وهي تنوح أو تبوح. في هذه اللحظة بالذات رأيناهم يؤدون النمرة ذاتها سعداء راضين، اللهم لا حسد.
..وقلت لا يليق أن أزور معرضا للكتاب فأغادره صفر اليدين، فعدت أعرِّج على أجنحة الناشرين من عرب ومن عجم وفي بالي عناوين تفيد في اختصاصي لعلم الاجتماع، لكني لم أجد بغيتي، ضعت في وفير الروايات حسبت معها أن كل من تعلم الليف(الألف) ما ينقط صار روائيا وشاعرا وقاصّة. ثم فكرت أن مرجع هذا ربما يعود إلى خصوبة مستعادة للخيال العربي ومنه المغربي، يعوِّض به الآدمي عمّا يُحرم منه في حياته ولا يشفيه الواقع، وأنا نفسي من هذا المنزع أقرأ بنهم روايات الخيال العلمي لأهرب مما أعيش فيه بين جامعة أكدال وحيّ لقبيبات.
كنت ما أزال صامتا أرخي العنان لصاحبي تسلّم حبل الكلام بدا مستريحا جدا في مده، وكأنما حسب أنه أفرط في الشدّ توقف يسألني، هل تحب معرفة مزيد مما شاهدت هناك وبم أحسست، أم يكفي؟ كلا، قلت، واصِل، حديثك عندي طريف وممتع.. شوف يا أخي أيوب؟ ظهر لي عجب آخر. وجدت أن كثيرا من الكتب المعروضة مؤلفوها مغاربة وهذا يثلج الصدر في زمن القيض حقا، إنما هي مطبوعة جلّها في بلدان المشرق العربي، والفرنسية كذلك في عاصمة الشمال، فلم أفهم أو فهمت ولا أفهم، أسأل لماذا لا ينهض ناشرون مغاربة بهذه المهمة إذ لا معنى أن ترحل أفكارنا ومواهبنا إلى هناك لتعود إلينا ولو في ورق سيلوفان، لولا عجز منا أو تقاعس أو قلة عناية بالكتاب، وأصدقك القول يا صاح أني شاهدت إقبالا على الاقتناء يشرح الخاطر، مغاربة يقرؤون كُتابهم بشغف، والعاجزون والخائبون وحدهم يقولون العكس، لذلك خلافا لإساءتك الظن فيّ أميل إلى النصف الممتلئ من الكأس. الدليل على حسن نيتي أثناء مغادرتي المعرض استوقفني زملاء سمعتهم يخوضون في ما وجدته جدلا عقيما، هل معرض الكتاب أفضل في الرباط أم الدار البيضاء ولماذا وكذا، وأسفت أن المتجادلين من جماعة الصورة والتألق لا أحد منهم يحمل كتابا، قلت لهم وأنا أنصرف غاضبا: اقرؤوا أولا ثم تجادلوا أين نعرض الكتاب في القامرة أم المريخ!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 22/06/2022