زفزاف يكتب فصلا إضافياً ل«قبور في الماء»
أحمد المديني
أريد أن أكتب كلمات لم يلوّثها قلم ولا ابتذلها لسان. كلمات لم يستخدمها مسعور مأجور، يُستقدم تارة لينفخ في النار، وأخرى للإطفاء كلما شبّ أُوار. كلمات، ولتكن بالية، إنما الجوهر المصقول كالبلّور، شمس الليل وقمر النهار، خبيئة في الصدور، موجعة، حرٌّ قرٌّ قمقم أسرار.
كيف لي أم لسواي أن يزعم امتلاكها وتسخيرها لقول ما تعجز عن حمله الجبال، وكي تنِزَّ بالألم، تثِب بالفرح، تنبئ عن ما في الكون من صغيرة وكبيرة وتكشف المخبوء وراء الأستار. لذلك أيّ قوة وإعجاز في الوحي الآتي من السماوات، إذ يهمس في أذنٍ الجواب عن المجهول، بالكلمات فقط، لكن بناصع الفصاحة وباهر البيان، فتسقي غلة الظمآن، وتنير السبيل للعميان.
لذلكقدْرٌ عظيم للحديث» إن من البيان لسحرا» لا يدركه إلا البلغاء، ومَن تترمّد في يده جمرةُ الكلمات، حين لا تصلح عنده، أو يعييه أمرُها كي يكتب بها فظاعات العالم وفجائعه المتكررة، ليقول(توحشتك) وهو تائه في بيداء الحنين إلى معشوقة من لحم ومجاز، لتكن مدينة إلى بوار. لذلك لا أظن أنها تفعل شيئا أكثر من أن تلتحق بما مضى وزال، وما كان الشعراء العرب في الجاهلية سُذّجا بائسين وهم يستهلّون بالبكاء على الأطلال، أن تحاول الالتحاق بما فات واللغة، العبارة على إثره، بالتعاويذ وشطح عبقر وصرع الأخيلة، ولا حيلة، لم يبق للأدب إلا الفتات، يطعم به جياعا وكادحين صنفهم كارل ماركس، وأصدرت الواقعية الاشتراكية بيانا صارما بتطبيق المبدأ على نمط الالتزام، وفي الصين يعلق( الدّازِباو) على الجدران في الظاهر رأيا لمواطن وفي الحقيقة هو قرار إما تنفذه أو تُعلق، وهو ما اخترت منذ منتصف ستينات خلت. كنا طلابا في كلية الآداب، وفي صبيحة فصل شتاء لا يوجد أقسى منه في فاس، وفطورنا خبز وشاي، وأجسامنا منكمشة من قشعريرة ننظر إلى أستاذ ملء الحماس، ونلتقط بصعوبة كلماته عن الالتزام والأدب الملتزم وواجب الكتاب ومن قبيل هذا الكلام، ولا أفهم ما يراد منا أن نفعل كي نكون ملتزمين أكثر من أنا كنا صامدين ومحبوسين في قلعة ظهر المهراز أكثر من سجناء ألتونا، نداري المسغبة ونحسب الأيام بتوقيت القتلة، كانت جثة المهدي بن بركة تحوم مثل طائرات الدرون هذه الأيام وتحط قليلا في قلوبنا حين يجفّ دمها لتتزود بطاقة الحومان، فنحن غضب وحطب ونيران، علينا أن نذرع الآداب وفقه اللغة والحضارة واللغات، من لبيد والشنفرى والسليك ابن السلكة و»ربابة ربة البيت التي تصب الخلّ في الزيت» ونعبر دروب الأحلام والأيام الموحشة ولا نظفر طيلة أعوام بقبلة ولا لفتة نحر، محمد عنيبة الحمري يمسك بالقصيد من أهدابه ويرسله في «الحب مهزلة القرون» كأنما على لسان قطري بن الفجاءة، ومحمد بن دفعة لا يعرف ونحن معه أين حديقة الورد، فلا تثمر موهبته غير ديوان» أشواك بلا ورد» إلى أن سخّر لنا الله أستاذنا إبراهيم السولامي فأهدانا في الصقيع ديوانه الباقة»حب» فارتفعت لبعض الوقت الغمّة، وتخففنا من سماجة درس الالتزام، وأخذ بيدي ونحن نغادر الكلية ننزل إلى ساحة الأطلس، ومنها رسوت في عيون إلزا، وها أنا اليوم في ورطة.
في الفترة نفسها كان صنع لله إبراهيم قد غادر السجن هو الشيوعي وتحت إبطه مخطوطة روائية طاف بها زمنا بعد أن عدلها مرات وطبعها أخيرا على نفقته (1966)، كانت مختلفة من كل ناحية، أولها تحسّسُها للخراب القادم في بلاد تسبح في الفساد وبعبارته «مدينة يملأ[البراز]شوارعها ومياه الصرف الملوثة تغطي الأرض والجميع يشمون الرائحة الملوثة».كانت «تلك الرائحة» صرخة احتجاج ونذيراً لما حدث بعدها، وتعبيراً عن قوة الأدب يستمد درس الالتزام من الحياة يصبح وإياها صنوان، ثم حين تبدأ في التفسّخ، بشراً وعمرانا، تحت طائلة الطغيان، يلاحقها بالوعي طبعا، وبشباك الكلمات والصور، وبالحنين المرّ ما استطاع.
بعد نصف قرن على رائحة صنع لله، استكثرت على الطاهر بن جلون أن يلوذ بهذا الحنين في روايته الأخيرة «le miel et l’amertume» ويبدو كأنه آخر المطاف. نوستالجيا طنجة التي كانت، بمدنيتّها وكسموبوليتيتها وتعددها الثقافي، وعنده ارتدادها عن كل ما شكّل هويتها وطابعها، حتى ليغدو ماضيها مستقبلا مأمولا ومستحيلا. لا يحق لأحد أن يجادل كاتبا في هواه، اللهم إلا مجادلته في طريقته، وبن جلون معلم في فنه بلا جدال، في هذه الرواية يبهرنا بتصوير حجم الردة والفساد حتى لنخجل وربما نستنكر هل مثل هذا يوجد في ديارنا ونحن نسدّ الأنوف عن «تلك الرائحة»، أم لسنا نملك غير لا غالب إلا لله؟! كل هذا والطاهر لا يستطيع أن يبرح طنجة، ولا أنا كلما حللت بالشمال، مفعما بالذكريات من كل لون ووجوه الأحبة الراحلين على حدّ المآقي، متَعتعاً كالسكران بين زمنين، منشطِرا نصفين، وأضرب أخيراً صفحاً عمّا مضى، فاتحاً ذراعيّ أحضن طنجة كما هي الآن، أكاد لا أصدق شساعتها وزينتها وما تختال فيه من بهرج وألوان، بين مرج البحرين حتى أعالي مرشان. كنت كمن يمشي في حلم يقظة، وفجأة فتحت العينين إثر صفعة ظننت سمعت زمجرة، لا، الناس هنا عادة يصرخون، ما عادوا من قهر يبكون، لا، هذه أصوات ربما من بشر غرقى قبل أن يجربوا العبور إلى الضفة الأخرى. لا، صرت أمشي في كابوسي أسمع نداء الاستغاثة، يحدث لي هذا منذ ابتليت قبل خمسين عاما ب «العنف في الدماغ»، لا، كنت أمشي فوق الماء وحولي جثث طافية، ومحمد زفزاف ينفض عنه لحده ويكتب سطرا إضافيا لروايته» قبور في الماء»(1978). هذه إذن مجاري طنجة تتنفس بالجثث، هذا عويل امرأة يشق الفضاء ثكلت بناتها الأربع كن يعملن في مصنع سري للجن، وجهها إلى السماء تشكو لرب العالمين (حسب موقع هسبريس 9 فبراير): «أربع أميرات ذهبن عند لله»؛ ما أهزل كلماتي، وقواربك ما تزال مبحرة يا زفزاف!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 17/02/2021