زمن الفرسان الخمسة

  أحمد المديني

02

زمنٌ آخر، كان. منتظماً، متسقاً، متدافعاً، موتوراً وكاسحاً بالرجال والأفعال، لا بالأقزام يتعثرون، لا أسماء لهم ولا ظلال. كان زمنا آخر، له أعلامٌ وقيمٌ ومفاهيمُ وشعاراتٌ، بحق، وعناوين ديار. كان زمنا آخر، الحياة والموت لهما فيه معنيان، فلا يستويان أو يحدثان جزافا كما في هذا الزمان. مذ بلغني نعي حسن لمنيعي حضروا ملء السمع والبصر، يطرقون باب الدهر بقوة يصرخون ويحتجون، كما لم يفعلوا إذ رحل أحمد المجاطي، وقتئذ صمتوا، أذهلهم موته المبكر إذ كان يغدو إليه حثيثاً فاحترموا اختياره، ومضوا كلٌّ في طريق. جمعتهم الستينات، كم بعُدت الآن في نسيان فتية أغرار، كأنها ما وجدت في تنطّعهم، ولا الرجال رجال! وصلوا إلى «ظهر المهراز» في فاس سُميت العاصمة العلمية لوجود جامعة القرويين، وحوّلناها معهم إلى قلعة للأنوار والثوار، ضمّهم إليها رضاع شرق وغرب: محمد السرغيني، بغداد، أولا، وباريس أخيراً. محمد برادة، القاهرة، أولا، وباريس أخيراً. المجاطي، دمشق والدار البيضاء، إبراهيم السولامي، القاهرة والجزائر والقنيطرة، أخيراً؛ ومارد الفرسان الخمسة حسن لمنيعي، الرباط أولا، وباريس ومكناس، أخيراً. بلا سابق ميعاد التقوا في كلية الآداب الفتية، وهم في عنفوان الشباب، والجامعة في حاجة إلى من يلقن لجيل الاستقلال الأول أبجديات الأدب الحديث وهي الغارقة في الأدب القديم والمعارف الكلاسيكية. أي مهمة شاقة أُسندت إليهم، أن يَحرُثوا أرضا بواراً لتنبِت زرعا، وما في جعبتهم إلا قليل زاد ليطعموا طلابا «زغب الحواصل لا ماء ولا شجر». كان عليهم أن يقدموا الزبدة والعصارة من كل الحديث: الرواية والقصة القصيرة وشعر التفعيلة وفن المسرح والتيارات كلها رومانسية وانطباعية والواقعية بفروعها ومدارس النقد الغربية بتعدد حركاتها ومصطلحاتها؛ كان عليهم أن يبحثوا عن النصوص ويشرحوها، شرقيها وغربيها، وهي كلها طرية مثار جدل بعد، وأن يخلقوا أفقا مختلفا من التلقي لدى طلاب أغلب تكوينهم من الشعر الجاهلي والأدب العباسي وقليل من الأندلس المغربي، مع المتون اللغوية والنحوية المسكوكة والصّمّاء، بجانب دروس عامة في الحضارات القديمة واللغات الشرقية. تسلق الفرسان الخمسة هذه الحيطان العالية ودخلوا المدرجات بقاماتهم الصغيرة وجِلين في البداية، وفي بضعة شهور ثم أعوام كبُروا في أعين طلبتهم، أكبروا ثقافتهم وألمعيّتهم وأنفاسَ التجديد والتنوير إذ بثوها فيهم وحولهم، فهيؤوا مع زملاء آخرين في شعب الفلسفة والاجتماع والتاريخ أرضيةً لثقافة مغربية حديثة عززت البواكير في الأربعينات والخمسينات، وسارت في دروب غير مطروقة مؤمنة بقيم التقدم والنهضة وإعادة صياغة الهوية بروح التجديد والتغيير والتعبير عن إنسان متحرر وإبداع خلاق. في أجواء هذا التعليم وتلك البدايات أعدّ الفرسان الخمسة، ومعهم أجلاّء غيرُهم لا يُنسَون، جيلاً من أساتذة الغد لا ينكر هذا إلا جاحد، وبزغت إشراقاتٌ لمواهب هم قدحوا زنادها مباشرة، وإما وجدوا فيهم السند ومنهم المدد بالحفز والتوجيه وتيسير سبل النشر وحتى القبول بأن يصبحوا لهم أنداداً ويسكنوا إلى راحة الأبدية والهدوء، بينما المتنطعون يلغطون!
حسن لمنيعي الذي جاء نعيُه الجارح يوم 13 من الجاري، كان أصغر الرعيل سنا، وأظن آخر من التحق بالكلية، فيما تميز عن زملائه بشخصية متفردة تكوينا لغويا وأدبيا مزدوجاً وذهنية وسلوكا، لذلك أسندت إليه مادة الترجمة في وسط من المعرَّبين الخالصين، ثم بحكم اهتمامه بالمسرح مغربيا وعربيا وعالميا وابحاثه المبكرة فيه، أسّس الدرس المسرحي لاحقاً في آداب فاس. باستثناء شيخي محمد السرغيني، الباقون يحضرون من مدن أخرى، أقربها مكناس، إليها ينتمي لمنيعي، وفيها عاش حياته كلها كالسمك في الماء، إن فارقها فللجامعة أو مناسبة ملحة. كان الأصغر سنا، المارد بين الفرسان الخمسة، هم جميعا شباب لذلك صادقوا طلابهم بوقار، وهو بالذات، يدخلون ويخرجون معه من الدرس زرافة إلى أن يوصلوه إلى محطة العودة إلى مكناس، حيث عنده الأرض تدور، لا يشبعون منه حديثاً وأفكاراً وتوجيهاً ومُلحاً؛ كان رسول فكر التنوير والتحديث الأدبي وكل جديد، وهذا على مر الأيام، سأقول الأجيال، طلبته في كل ربوع المغرب وخارجه من الأشقاء العرب، بكل هذا الغنى، وهو إلى الصمت والظل أميَل. فاتني أن أدرس على يديه، لكنه مثالٌ تعلمنا منه، وصار صديقا وزميلا بعد ذلك، هادياً إلى المعرفة وفن الحياة، صدرُه وبيتُه ومكتبتُه وصُرّتُه رحاب محبة وعطاء. وإذ بلغ نعيُه الاستثنائي في زمن كئيب وعديم المروءة، شحيح بالاعتراف، حضرت حياتُه كلّها ورفقة جيل، أطال لله في عمر الأحياء، هي شمعة منيرة منهم تنطفئ، ونحن بعدهم ذبالات ترتعش ليس غير، نم قرير العين «عمي حسن»، وأعترف أنك عشت أيها الأستاذ.

الكاتب :   أحمد المديني - بتاريخ : 25/11/2020