سياسة تكميم الأفواه

حفيظة الفارسي
لقد فعلتِها يا كورونا، والله لقد جئت شيئا فرِيّا.
أحيانا الله حتى عشنا وسمعنا «الشعب يريد تكميم الأفواه».
المواطنون حائرون، يفتشون، يتساءلون: أين الكمامات؟
يذرعون الأحياء ويطرقون أبواب الصيدليات والمتاجر، ولا من مجيب.
من كان يصدق أن الشعوب التي خاضت عبر تاريخها الإنساني الطويل، نضالات مريرة وعسيرة، ودفعت من دمها ووقتها وحياتها ثمنا للحرية والحقوق وإسماع صوتها، تطالب اليوم بتكميم الأفواه بل تجعل هذا المطلب ملحا ولا يقبل التأجيل، حتى أضحى توفير كمامة لكل فاه مفتوح، مسألة حياة أو موت.
إيه ياكورونا، ألم أقل إنك جئت شيئا فريا؟ !
وحقَّ على المختصين في علم السياسة أن يعيدوا حساباتهم ويطوروا مفاهيمهم التي لم تصمد أمام نواميسك الجديدة.
منذ أن بدأ وعينا السياسي يتشكل ونحن تلاميذ أو طلبة، طالما غلبتنا الحمية والحماس أمام رفض مطالبنا أو تقديم إغراءات للتنازل أو «بيع الماتش»، ورفعنا الصوت عاليا بأنهم ينهجون معنا سياسة تكميم الأفواه، وكانت هذه العبارة كافية لتثير حمية المنظمات الحقوقية، دولية أو وطنية، باعتبارها واحدة من سمات ومظاهر اللاعدالة واللاديمقراطية في الأنظمة الديكتاتورية وغير الديمقراطية التي تصادر حق التعبير والجهر بالحقيقة من مواطنيها، سواء كانوا أشخاصا أو مؤسسات أو منظمات غير حكومية، وكانت هذه الدول تلجأ إليها لإسكات صوت الحقيقة والمعارضة كخطوة لإقصاء الرأي الآخر الذي كان دائما هو صوت الضعفاء. وكم من أنظمة آلت الى زوال بسبب نهجها سياسة تكميم الأفواه، التي اختنقت ثم مزقت كماماتها لتقلب الموازين لصالحها.
وكما مورست هذه السياسة على رجال السياسة والنقابيين والحقوقيين، فقد انسحبت على جنود السلطة الرابعة، إما بسجن الصحافيين أو بإغلاق المؤسسات الصحفية أو بالغرامات المادية أو مصادرة بعض أعدادها، وكل ذلك كان من أجل خلق بؤر هيمنة اقتصادية تقودها لوبيات معينة مستفيدة، أو هيمنة سياسية تسير في ركاب السلط القائمة، أو هيمنة اجتماعية تسوق لقيم وممارسات وأفكار محددة.
اليوم يبدو الأمر مفارقا وغارقا في السوريالية والسخرية، ونحن نرى الجميع في بحث محموم وخوف مفهوم عن كمامة يضرب بها عصفورين: سلامة الجسد وسلامة الجيب ، فنسمع الشكاوى والتصريحات في الإذاعات والقنوات التلفزية أو على مواقع التواصل بأنهم يريدون الكمامات بل ويطالبون بها الى جانب الدولة، لكنها، يصرحون والأسف والحسرة باديان على وجوههم، غير موجودة.
حقا، لقد غيرت «الميس كورونا» الكثير من عاداتنا الحياتية وجعلتنا نعود إلى مِهادنا كي نتشكل من جديد، لكنها، ومن مساوئ الصدف، جعلتنا وديعين ونحن نقبل بصدر رحب مفاهيم ما كنا نعتقد أنها ستعود، من قبيل «حظر التجول» و»سياسة تكميم الأفواه، مع إدراك الفارق والضرورة طبعا.
وفي انتظار أن نطلق عصافيرنا في السماء ونرفع معها أصواتنا بالغناء، نقول: «كمامة وتزول»، «ألا اشتدي كمامة تنفرجي».
الكاتب : حفيظة الفارسي - بتاريخ : 13/04/2020