عبد الله كنون غريباً في الفردوس المفقود!

أحمد المديني

لست من المبتلين بالهموم والأحزان، عُملتي الذهبية هي العبُّ من الحياة ملءَ العنفوان، من الجَمام حتى الثُّمالة، ثم أجدها تداهِمُني من حيث لا أدري قدَراً أحمقَ الخطى، سوى أن هامتي لا تسحقُ خُطاه، أقبض على الدنيا بفرح وأصرّح بالابتهاج حتى وهي رماد وعَجاج، ثم تحت الجلد ما يخترق المسام، وفي القلب نبض أنين، جرحُ ماضٍ مفتوحٍ يا لها ينابيعُ حنين.كفى، هذه كتابة بالتجريد، ينبغي أن يسبقها التجسيد، وإلا فلن تكون كاتباً ولستَ رساماً، ربما أحداً، وعندي أكثر من دليل، أسوق منه الصورة/ صورَهم الموشومة في الذاكرة، الساكنة في العين، الراقصة في الهواء، والمعلقة في فراغ زمن أراه، أحس به ممتداً بلا نهاية يلاحقني، لا فكاك.
كان كافيا أن يُعلَن رفعُ الحجر الصحي بقرار حاسم، لأهبّ لاستعادة مدينتي، باريس بقيت مسلوّةً، مبتلاة، نعم مثل الجميع مشتعلا في نفسي لهيب الشهوات، وجعلت قرة عيني في الكلمات. هذه لا تفارقني، تخِبّ جيادا في نومي، وفي الصّحو تُلاكم بعضَها أو تشدو، لكني أقبض على الزّمام لِيَلاّ تلقي بي إلى التهلكات، مع أنها قدرُ الكاتب أو هو مسخ وقولُه غُثاء. قصدت في صبيحةٍ مشرقةٍ مكتبتي(عند تشان) في امتداد شارع مونبرناس بعد تقاطع شارع رسباي، أنت هنا تلج محرابا، صمت الخشوع، وكالبخور تشمّ عَبَق خير جليس في الزمان. نحن الذين نطرق هذا العنوان، وآلاف يبزّوننا في هذا التراب هبّوا زرافاتٍ ووحدانا ما إن رُفع الحَجْر إلى مكتباتهم لدعمها، بدل الكتاب يقتنون خمسة، ويحبون أن يطمئنوا، فإن قلِقوا زادوا بدل الخمسة عشرة، هم حماةُ المعرفة والإبداع أكبر من دولتهم استرخصتهما في البداية وعدتهما بضاعة «لا ضرورية» إنها شعوب القراءة.
ليس أفضل بعد مغادرة تشان من قهوة راوُوقها خضِل في مقهى لاروتاند، والصبيحة مشرقة، والخاطر مفتوح للحياة، وقهوتها رحيق، وأنا أريد أن أستعيد أنفاس عيش جديد، لكني كالمُسَرنَم أترك الباحة وأعبر إلى الداخل، في صف الطاولات المربعة على اليمين، وللجلوس على أريكة القطيفة الحمراء، وأستغرق في حديث كأنني بدأته منذ سنين، معه هو أمامي، حديثاً ظل صامتا وممتلئاً بالمعنى والتفاهم المتواطئ، هكذا هم الأذكياء والنبلاء الذين أحب، ونور الدين الصايل كان منهم، قفزت من جلستي إذ أشغل مقعده، إما غارقاً في كتاب أو مُحاطاً بأبنائه، أسبح في الفراغ الشاسع أمامي بينما وضع النادل قهوتين طلبتهما وهو يعجب يسمعني أقول لجليسي تفضل، تحبها بدون سكر، أما الليل فله نخبُ النجوم يا نَديم القمر، غاب. دفعت المستهلك وصرت عند مدخل مترو vavinهرباً مني لا رغبة، أريد العبور إلى الرصيف الآخر، فقد رأيته فجأة يلوّح لي تعال أبو شهاب، نظرت في ساعتي وتأكدت أنها 11.30 أنا على موعد مع (أبو عوف) لا يهم إن كان اليوم الأربعاء 30 يونيو 2021أو الأربعاء 30 أكتوبر 1981، فانا لا أعيش في الوقت ولكن في الزمن، وصرت أحسب الأيام بالعقود، حتى القرون، لذلك أحباب قلبي لا يموتون، هم مقيمون في المهجة، وأسمع ضحكاتهم تصطفق موجا ووجوههم باسمة ورؤوسهم مطرقة وترسم خريطة بلدان لم ننقطع عن تشييدها، عبد الرحمن منيف من كبارهم، يلوح مرة أخرى من خلف واجهة مقهى(لو دوم) وأفعل كما في (لاروتاند) أطلب قهوتين وأسمعه يحدثني عن مشروع» مدن الملح» الملحمي، وبين رشفة ونفَسٍ من غليونه يحدق إلى بعيد من وراء نظارتيه السميكتين، فأعرف أن الرواية تناديه.لوّحت له من موقعي بإشارة أننا سنلتقي غدا، وغدوت أمشي على الرصيف ذاتِه، بعد أمتار معدودة وقفت ألهث مثل من مشى ألف عام، ويتذكر أن له هنا موعدا منتظما والساعة صارت الخامسة والنصف بعد مرور دقائق فقط من الحادية عشرة، وأُقبل عليه معتذراً، طاولته على الشارع مباشرة، هنا يحب إدمون عمران المالح أن يجلس بعد عصر كل يوم ليستريح من وعثاء العمر، وإما يحدث الأصدقاء، أو يتملّى في أطياف الناس وعيناه تتلألآن. جالسته وطلب مني إن ذهبت إلى أصيلة أن أسلم على صحبته في مقهى زريرق، وإني أفعل.
وجدت أصيلة تتزين لصيفها الرّخِيّ، جدرانُها البيضاء الناصعة تحت سماء زرقاء شاسعة، تتبرّج بالصور وتتراقص بالخطوط، رسامون وأبناؤها الهواة بقاماتهم طويلة نحيلة كالفرشاة يسكبون خيالهم جداول مضيئة على الحيطان، ومن صباغة طرية تتموج عندهم ألوان. ذا مشهد واحد من احتفالية منتدى أصيلة من بين مشاهد في دورة جديدة(42) يتحدى الوباء، ويعالج الروح، كما يقول أمينه العام ورائده محمد بن عيسى منذ سنة 1979 بمثابرة بلا نظير. أتاح لي فرصة استثنائية عزيزة المنال، ذهبت بمعيته إلى طنجة لأقف على أمر حقا مثير.

دُعي الأستاذ بن عيسى من طرف القائمين على مكتبة العالم الجليل الراحل عبد الله كنون ليطلع على شأنها وحالها، هي الواقعة في فرع من شارع محمد الخامس على أمتار مما يسمى (حائط المعجازين) يعلم الله أني وغيري كثير مررنا ولم نطرقها ولا سمعنا بها، وها هي مبنى عتيق من أربعة طوابق عاث فيه البلى، صالاته وغرفه رفوف متراصة تكدست فيها الكتب منذ افتتاحها سنة 1985، خزانه حسب المشرفين تناهز 279 ألف كتاب، ويعانون من قلة ذات اليد وأدوات التدبير اللائقة بمثل هذه المعالم. وقد التقينا بمثقفين وسادة محبين للثقافة ولمدينتهم يكرسون وقتا ثمينا تطوعيا للحفاظ على هذا التراث الفخم، سائلين العلي العظيم من يلتفت إليه سواء من الدولة أو المحسنين لترميمه وتحديثه وتوفير ما يليق، بينما الملايين تجري ذات الشمال واليمين، إلا للكتاب، عجباً لم يجد سنتما في خزانة وزارة الثقافة وأفلام باهتة تمنح ميزانية دعم يعادل طبع ألف كتاب، ماذا لو عاش ميلتون هنا لبكى فردوسه المفقود!
عدت من طنجة مثخناً بالأسى لما سمعت ورأيت، وطفقت أحفر في داخلي قبرا أطمِر فيه أساي وغضبي واللاّجدوى وقبض الريح، كي أستريح.. مستعيناً بأصيلة الصبر والسكينة، لم تُمهلني إذ مررت ليلا بزاوية سيدي الغزواني، فتسلقت السور، مباشرة فتح بابها الأخضر وحده، انتصب محمد المليحي خلفه، فأخذته بالحضن، لم نبك بل ضحكنا حتى دمعت منا العين، ومشينا تحت ( الطيقان) موجتين، ومرّ فوقنا شاعرا المدينة المهدي أخريف وإدريس علوش يحلقان بجناحي نورسين، طارا بي وحطّاني في رباط الإغلاق وهي في حداد، وصلت إليها متأخراً بعد جنازة قمري البشير، فدارت بي الأرض دورتين، وصرت أبحث عنه بين مدرّج ابن خلدون في كلية الآداب، وصعوده السرمدي في مراقي العذاب، بححت بالسؤال ولا جواب. سألتني آنيك وهي في باريس إذا زرت الرباط رجاء مر لقبر فريد، فريد النعيمي المثقف المناضل المغربي العصامي، وهي أرملته، واسق تربته، بحثت في مقبرة الشهداء ساعتين، منذ 1965 وأنا أبحث عبثا عن قبر الشهيد ولم أجد، ولن أيأس، وسأطلب من حسن أوريد، صديق فريد التليد، أن يسقي القبر ويتذكر، فنحن إنما عابرون في “زينة الدنيا”، وأما أنت يا سيدي عبد الله كنون فابق نائما قرير العين، أنت ونحن بعدك غرباء، والعاقبة للمتقين.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 14/07/2021