فخامة الرئيس، نحن أيضا نستحق دو توكفيل

أحمد المديني

هذا يوم مشهود تصدر فيه هذه المقالة، لذلك وأنا أجلس لرقن مادتها ما كان ليخطئني الموضوع ولا لأخالف الموعد الذي يشدّ أبصار وأسماع العالم قاطبة، لن أبالغ، الصُّمَّ العُميَ البكمَ، أيضا. والموضوع صعب أن يُحتوى، هو أكبرُ منا، وأوسعُ من مدارك كثير من الجهابذة وخبراء الساعة الأخيرة، سواء الذين عملوا في واشنطن، أو من يدّعون وصلاً بليلى، بألف سبب، حتى من باب الادعاء للحضور في قلب السياسة الدولية، هذه السياسة التي شربوها من الضروع الأمريكية إمّا تعليماً أو خدمةً بطرق شتى منها الولاء، أحد شروط الحصول على المكاسب والحظوة في بلدانهم الأصلية، أما الأمريكيون فهم عنا جميعا لاهون، وفي شؤونهم يخوضون، أو غيِّهم سادرون، ليسوا معنيين بالعالم الخارجي إلا من مدخل التوسّع والهيمنة وبسط النفوذ، وأن يكون لهم قرار حيثما لهم موقع قدم ولفرض مزيد وصاية، ولمواجهة كل الأنظمة والقوى والإيديولوجيات التي تعتبر الولايات المتحدة أنها تحكم وتتميز في وجهها بريادة العالم الحر.
هو يوم تنصيب الرئيس السادس والأربعين للدولة الفدرالية العظمى إن لم تكن الأعظم في العالم، وما أظن جو بايدن منذ أن أجمع عليه (الديموقراطيون) مرشحهم لمنصب الرئاسة، ولا مشايعوه وخصومه كذلك، كانوا يتوقعون أن سيؤدي اليمين الدستوري في الكابتول(مبنى الكونغرس) بعد أحداث هزت أمريكا، ومن ورائها عالمها، فيظهر كأنه المسيح أو بمثابة المهدي المنتظر الذي «سيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا».. ومعه ستبدأ صفحات جديدة في التاريخ الأمريكي وأقطار الأرض كافة، حليفة وتابعة ومناوئة لسياستها. لو كنت من نزعة نظرية المؤامرة لقلت إن ما حدث مصنوع صُنعاً وتلفيقاً، ولو لم أشاهد مثل الملايين، وأوّلهم رأس حربة الفتنة الرئيس دونالد ترامب، شاشات التلفزيون تنقل الوقائع الغريبة الشنيعة لِما سُمِّيَ يوم الأربعاء الأسود، أصبح عند القوم خلال ساعات يضاهي الحادي عشر من سبتمبر 2001حين دُمِّر البرجان التوأمان في مركز التجاري العالمي بنيويورك الذي اتخذه بوش الإبن ذريعة لاستئناف الغزو الأمريكي للأنظمة المناوئة لها والمستقلة بسياستها تشن حربا هوجاء ضد الإرهاب، وتتزعم وتزعم نشر رسالة الديموقراطية وتخليص الشعوب من أوثان الاستبداد والدكتاتورية نَجَم عنه من بين عديد أمثلة إسقاط النظام العراقي وتقديمه على طبق من ذهب إلى ملالي طهران، واستقدام العملاء ليدخلوا إلى بغداد فوق دبابات الغزاة وينتعلهم حاكمُها المبعوث بول برايمر يدوس بهم قصور صدام وينهب البنك المركزي لعاصمة الرشيد بينما جنوده يحرقون المكتبة الوطنية مجدِّداً شرعة سلفه هولاكو.
بينما أبَى مكر التاريخ إلا أن تصاب العروس في مقتل، لمّا تم اقتحام ما يوصف بمحراب الديموقراطية الأمريكية(الكابتول) على مرأى ومسمع من الأمن والحرس الخاص (وباختفائهم أيضا!) وكاميرات تلفزيونات الولايات المبثوثة مباشرة إلى العالم، هاجمته جماعات وُصفت، ويا لسخرية الأقدار، بالرعاع والسوقة، وعبثت بمحتوياته وهددت حياة النواب وهم يستعدون للمصادقة على انتخاب الرئيس، وبإجمال سفّهت أقوى الرموز والمُثل المقدسة في النظام الذي ينصّب هياكله ودستوره ومؤسساته لحماية تلك المبادئ الكبرى التي جاءت بها الثورة الفرنسية وعصر الأنوار إلى الحد الذي جعل ألكسيس دو توكفيل(1805ـ1859) يعتبر أن الديموقراطية إنما أزهرت وآتت أكلها في ما وراء المحيط هنا حيث عاش تجربة فريدة ليؤلف كتابين شهيرين.ها هم أمريكيون ورئيسُهم بعد أن شحنهم بالغضب وأشعل فتيل الهجوم، بعبارة سلفه كلينتون، ضد الرئيس الخلف المنتخب ديموقراطيا، يضربون عرض الحائط بإرث أمة كاملة وسجل مفاخر تباهت بها طيلة حقبة الحرب الباردة في وجه المعسكر الشيوعي والأنظمة التوتاليترية واتصلت تتزعم مع حلفائها الغربيين الأقطاب الاقتصادية والأحلاف العسكرية باسم الليبرالية والحرية وحقوق الإنسان مناهضةً الشيوعية والاستبداد والفاشية، بينما الدودة العفنة تسري في جسدها، ولم يصدق (الحلم الأمريكي Américaindream)، عدا مطحونين بالفقر باحثين عن أي خلاص كما صورهم بإبداع إليا كازان في رائعته» «America America»(1961)، وإلا فإنه تاريخ غير بريء من الدموية والعنصرية، كيف ومقدماته إبادة الشعوب الأصلية في الأمريكتين، ومن العنف والتمرد على المؤسسات عبر أجيال، وحوك المؤامرات في الخارج والانقلابات؛ وصولا إلى انتخاب الملياردير الأبيض ترمب الذي اخترق الصف الجمهوري العتيد وتصدّر بثروته وخطابه الذي كانت له مقدماته ومكامنه في نفوس ملايين مشبعة بنزوع فاشي معلن ومضمر، فغذّاه وألهب نار العنصرية منتصراً للبيض وحدهم ومحرّضاً ضد السود والملونين، ومستهتراً بقواعد النظام العالمي والأعراف الدولية، متاجراً بحقوق الشعوب قاد حملة صليبية جديدة على الفلسطينيين المستضعفين اليوم في الأرض؛ وهل ينسى أنه صانع ال fake news ليصبح رئيس الكذب والخداع عنوانا للإعلام ويحطم مصداقية كل خبر لا يوافق جنون حكمه دفعه للتشبث بكرسي الحكم حتى الرمق الأخير من المهانة، والمرارة حقا أنه بيّض وجوه المستبدين للتنافس في التنكيل، وفتح لهم الطريق سالكاً للمزيد، أليس هو رئيس دولة تلك المبادئ الكبرى، ها ها؟!
ورغم أني كتبت أني غيرُ معنيٍّ بالحلم الأمريكي، أنا المنتمي إلى أمة عانت من كوابيسه، لا أخفي ـ وما أنا إلا كاتب غُفلٌ في عداد العالمين ـ ارتياحي لرحيل ذاك الذي.. وتنصيب رئيس جديد هو للأمريكيين وليس لي ولا لمبادئي ولن يفعل شيئا لآمالي وما أنتمي إليه بألف سبب. إنما اقبل مني هذا الرجاء فخامة الرئيس، اترك الشعوب لمصيرها لا تصادر ثوراتها، دعها في مشارق الأرض وغاربها تسوس أمرها ومستقبلها، وأعد الاعتبار لحرمة الكابتول، يمكن أن يغدو محج العالم كله إذا عرفتم أن تؤمنوا بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان للإنسانية جمعاء كما تحبون أن لا تهان في دياركم. Good luck mr president

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 20/01/2021