في آخر نفق الجائحة، إدغار موران يستخلص الدروس
أحمد المديني
نريد أن نتفاءل ونقول إن عصف الجائحة أضحى وراءنا، وفي آخر نفق عام مدلهم أشعة حياة تتلألأ، وحين نصبح تحت الضوء سنفرح باستعادة الحياة، وسنحتاج أيضا إلى تأمل ما جرى. عديدة هي الكتب والتقارير التي عنت برصد وضعية وباء كوفيد 19 الذي اجتاح العالم بأسره منذ شهر آذار/مارس 2020 وما تزال البشرية تعاني من ويلاته بعد أن حصد ما يزيد عن ستة ملايين من الأرواح ودمّر اقتصاد بلدان وعطّل الحياة من كل النواحي. مع هذه الجائحة التي تعد أسوأ ما عانته البشرية منذ وباء الحمّى الإسبانية(من 1918 إلى 1921) مخلفة حسب معهد باستور ما يربو عن خمسين مليون ضحية، وعند بعض مائة مليون، لا تعوزنا مختبرات البلدان المتقدمة والخبراء والحكومات في كل مكان تخوض حروب مكافحة الوباء الأرقام والإحصائيات المفزعة والمدوخة، ولا التحليلات وحتى تأملات الأدباء، أهم من هذه جميعها الدروس الكبيرة للمفكرين والفلاسفة، ممن خبروا وامتحنتهم الأزمنة.
عربيا نذكر الكتاب الجماعي لمفكرين وأقلام مغربية الصادرعن المركز الثقافي للكتاب بعنوان: «العالم ما بعد جائحة كورونا، رؤى مستقبلية» وتدوين طريف حديث جدا للقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي بعنوان: «في حضرة صاحب الفخامة كوفيد 19» الصادر عن مكتبة الأمة، الحبوس.
من علياء مائويته الشامخة يطل علينا إدغار موران (1921ـ) المفكر الفرنسي، عالم الاجتماع الذي سيحتفل ونحن مريدوه وعشاق أبحاثة العميقة بعد أسابيع فقط باعتلائه ذروة قرن قابضاعلى جمرة الحياة بعد، ويقظة الذهن وشعلة الروح، تحت شمس مراكش، حيث يعيش الآن .يطل من كتابه «Changeons de voie; les leçons du coronavirus»(Denoel، 2020)(لنغير الطريق؛ دروس وباء كورونا) ليقدم لنا من وحي خبرته وثقافته الموسوعية وخصوصا التجارب التي تقلب فيها وامتحنت فيها البشرية بين عديد ويلات وعبرها الدروس التي استخلصها هو ويستعرضها بالتحليل والنظر، مستمدة مما تسبب فيه الوباء وولده من أوضاع على الأصعدة كافة، وكذلك من وحي تجربة حياة رافق صاحبها أهم وأخطر أحداث وتحولات القرن العشرين وتياراته الفكرية والإبداعية والإيديولوجة، وخاض معاركه السياسية واختص بجهاز نظري ومفاهيمي في تحليل الظواهر الاجتماعية وتحولات العصر الحديث المركبة، برؤية الإنسانيات الكبرى ومن موقع المفكر الملتزم والرافض للتبسيط والدوغمائية.
سيرة موران خصبة ومركّبة نظير المفهوم الذي أوجد وأصبح مفتاحا له لتأمل وشرح براديغم الحداثة المركب(complexus)، أي المنسوج مجتمِعا، وبواسطته يستخلص مزيد دروس.
نعم، يرى موران، أنه وجدت عديد أوبئة في التاريخ، أما كوفيد 19 فقد تسبب في أزمة عظمى mégacrise، نتيجة تجميع أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية ووطنية وكونية متداخلة، أي أزمة مركبة.
كشفت أن ما كان يبدو معزولا هو غير منفصل. وعنده أن الأزمة الناجمة عن الكوفيد ينبغي أن تؤخذ بمثابة عارض خطير لبراديغم الحداثة المولودة في القرن 16، ونعني به المبدأ الناظم للفكر والفعل والمجتمع، باختصار مجالات حضور الإنسان. مع هذا الوباء لم يسبق للبشرية أن وُجدت مغلقة على نفسها جسديا، وفي الوقت منفتحة على المصير البشري المجهول، بما يدفع للتفكير في حياتنا وعلاقتنا بالعالم، ويلقي بنا في معمعة انعدام اليقين، أي اننا دخلنا عهد الشكوك. وإذن، ما هي الدروس؟
يجمعها صاحب نظرية» المنهج»(2008) و» مدخل إلى التفكير الم في آخر نفق الجائحة، إدغار موران يستخلص الدروس
ركب»(1990) الذي شغل معظم سنواته الأكاديمية في المعهد الوطني للبحث العلمي بفرنسا وبجامعات أجنبية فحصل منها على ثمانية وثلاثين دكتوراه فخرية توجت هرم كتبه الستين المنشورة عدا مداخلاته، نقول يجمع الدروس التي استخلصها من الكوفيد 19 في خمسة عشر أغلبها الأعم الآتي:
1ـ درس حول وجودنا، إذ يفترض أن تجربة الحجر جعلتنا ننفتح على وجود المحرومين والفقراء. جعلتنا نتساءل عن نمط حياتنا وما هي الحاجات الحقيقية والأخرى النافلة، وتستدعي منا الانفتاح على ما هو جوهري في الوجود.
2ـ درس الوضع البشري: كشفت الجائحة أو برهنت على انهيار الأسطورة الغربية لسيطرة الإنسان على مصيره وعلى الطبيعة، ومزعم أن العلم قادر على كل شي حتى هزيمة الموت.
3ـ درس حول لا يقين حياتنا: لم يعرف بعد مصدر الفيروس، ولا كيفية انتشاره بشكل غير متكافئ، وما يعتريه من تحوير وتحولات، والسؤال قائم عن توقيت وإمكان اختفائه أو سكونه؛ ثم حجم ونوع تأثيراته وانعكاساته في ميادين السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة إلخ.. ما يفيد بأن انعدام اليقين ما يرافق المغامرة الكبرى للبشرية، والحياة كلها مغامرة غير مضمونة.
4ـ درس علاقتنا بالموت: فرضت كورونا بشكل فظ اقتحام الموت الفردي في الحياة اليومية العادية التي اختلفت أيضا واستحدثت ظواهر طارئة. هكذا، صرنا نَعُدّ موتانا يوميا بإحصاء منتظم؛ وطفقنا نرى الموتى يرحلون تباعا وهم يذهبون وحدهم دون أن نشيّعهم ولو بنظرة وداع، وأننا معهم وبعدهم حُرمنا من مرافقتهم إلى اللحد والحزن عليهم في طقوس مرعية.
5ـ درس حول حضارتنا:وِجهتها الاهتمام بالخارج وتمظهراته ومحافل وأشكال العيش فيه، كما تتجلى في المقاهي والمطاعم وأماكن اللقاء المختلفة وفي الأسفار ومن قبيله. فجأة، توقف هذا كله، دلفنا إلى مغارة الحجر، أي دُفعنا إلى الداخل، إلى دواخلنا، أنفسنا، وأصبحنا أيضا مضطرين للتفكير في الضروري حقا لحياتنا، لاستهلاكنا، مثلا.
6ـ درس التكافل والتضامن: ظهرت مع الجائحة حملات تضامن بين الناس، سكانا وجيرانا لمساعدة منهم في أوضاع صعبة، وهي كشفت بالملموس القصور الموجود في هذا الميدان بسبب فردياتنا، ونظرا للتفكك الاجتماعي الحاصل والمتواصل، بما يحفز على مزيد تكافل.
7ـ درس حول اللامساواة الاجتماعية في الحجر، فلم يكن الجميع بالإمكان ولا الشعور ذاته.
8ـ درس حول تنوع الأوضاع وكيفية تدبير معضلة الجائحة في العالم والتصدي لوقفها.
9ـ درس حول العلم وما وصل إليه الطب من تقدم أو يعجز عن التغلب عليه بعد.
10ـ درس آخر مهم يتمثل في أزمة الذكاء وحدود قدرتنا على فهم الظواهر في الطبيعة.
11ـ ولا يفوتنا الانتباه إلى درس يستخلص من مفاهيمنا المثبتة عن النمو والاقتصاد وتوسّع الأسواق، إذ تعطى الأولوية للحساب، للمردود لمعرفة الحقائق البشرية من قبيل نسبة النمو والناتج الداخلي واستبيانات الرأي، بينما مشاعر الحب والألم والكراهية لا تخضع للحساب.
12ـ ودرس مهم آخر يتصل بتطور الفكر والتفكير والعمل السياسي. وهذه حقول تتطلب اهتماما أكبر وأعمق، لا نشك أنها الأهم عند فيلسوف وعالم اجتماع مثل إدغار موران ينشغل بالأبعد ويستشرف المستقبل عبر الحدثي والظرفي، ولا شك هذا ما سينكب عليه الفكر غدا.
13ـ لا يفوتنا في هذه القراءة الإلماع إلى تشديد موران على الوعي بالحفاظ على البيئة وذلك ضمن سياسة تدمج الإيكولوجي في السياسي، بما يلزم تغيير كثير من أفكارنا وعاداتنا.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 09/06/2021